مدار الساعة - ما الجديد في الأخبار؟ السؤال اليومي الذي يتردد في غرف التحرير في الصحف اليومية أو نشرات الأخبار في الإذاعات والتليفزيونات، ولكن في زمن السرعة خاصة بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وأدوات الذكاء الاصطناعي، فأصبح السؤال الدارج (ما هو الترند؟) بوصلة الإعلام الجديدة بجميع أدواته، بغض النظر عن قيمة أو أهمية الخبر، فالمهم زيادة عدد المتابعين، والمشاهدات والإعجابات مفتاح جني المال.
المشهد تغير، فلم تعد الصحافة تقود قاطرة الإعلام وتوجه الرأي العام نحو قضايا جوهرية تمس واقعهم، أصبح الإعلام يركض خلف خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، والصحفي أصبح يتابع هاشتاغات منصات (إكس) و(تيك توك) و(فيس بوك) وغيرها من المنصات التي تتحفنا بها مواقع التطبيقات، لتكون مصدره الأساسي بعد أن وضع جانباً متابعة المؤتمرات الصحفية وعلاقاته مع الشخصيات الرسمية للاستحواذ على المعلومة الحقيقية غير الموجهة لأغراض من يتحكم بها.
كانت الصحفية الأمريكية مارغريت سوليفان صادقة حين قالت في إحدى مقالاتها: “في العصر الرقمي لم يعد المعيار هو الحقيقة، بل مدى قابلية الخبر للانتشار”.
في الماضي، كانت الصحافة الورقية وبعض القنوات الرسمية تمارس نوعاً من الانضباط المهني، ربما وصل حد التقييد أحياناً، لكنها حافظت على حد أدنى من الرزانة والانتقائية، أما اليوم، فإن أدوات النشر المفتوح على مواقع التواصل الاجتماعي حررت الإعلام الرقمي من هذا التقييد، ووفرت له مساحة لم يكن يحلم بها، فضاعت معها الحقيقة والرسالة الهادفة وفتحت المجال مفتوحاً أمام الأخبار الكاذبة والأخبار المضللة والإشاعات لتلعب لعبة القط والفأر مع الجهات الرسمية التي أصبحت تركض خلف بيانات النفي، ورسمت مشهداً مغلفاً بالفوضى الإعلامية وتركت الصحافة الورقية والإعلام الرزين يلتقط أنفاسه الأخيرة لاهثاً وراء البحث عن قشة النجاة.
لكن هذا الانفلات لم يكن دائماً في صالح الرسالة الإعلامية، فبينما أتاحت هذه المنصات فرصاً كبيرة للتفاعل، ومكنت المستخدمين من صناعة محتواهم، إلا أن الركض وراء “الترند” بات يضعف القيم الجوهرية للإعلام وأهدافه ورؤيته، والأخطر من ذلك هو التأثير السلبي في اتجاهات الرأي العام، حيث أصبحت تلك المنصات تقود الرأي العام ولكن بنصف الحقيقة المغلفة بالتضليل، مما فتح المجال للنفوس الضعيفة أن تشكل الرأي العام.
في الأردن، على سبيل المثال، انتشرت قبل عدة أيام في عطلة عيد الفطر خلال أبريل 2025 شائعة وفاة رئيس الوزراء الأسبق عبدالرؤوف الروابدة بسرعة على مواقع التواصل، متصدرة قوائم “الترند”، وتسابقت جميع المواقع الإخبارية الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي تناقل الإشاعة مثل النار في الهشيم وبسرعة الضوء، على الرغم من أنه تم نفي الخبر الذي أصبح أيضاً “الترند”، وبقيت الشائعة والنفي متداولة لساعات طويلة، مما عكس هشاشة المصداقية الرقمية وغياب التحقق.
وفي مصر، حدث أمر مشابه حين انتشرت شائعة وفاة الفنان محمد جمعة، لتصبح ترنداً على منصات التواصل الاجتماعي، ما اضطر الفنان بنفسه للظهور ونفي الخبر، بعد أن انهالت عليه الاتصالات، في واقعة كشفت كيف يمكن لخبر غير موثوق أن يستهلك اهتماماً عاما في لحظات.
كما قال كلاي شيركي الباحث الأمريكي في الإعلام الرقمي وأستاذ بجامعة نيويورك، وكاتب يهتم بدراسة الآثار الاجتماعية والاقتصادية لتكنولوجيا الإنترنت: “نحن لا نعاني من وفرة في المعلومات، بل من نقص في التصفية والتحرير”.
هل هناك بصيص أمل؟ نعم، لكنه يحتاج إلى مراجعة شجاعة فالترند ليس عدواً للإعلام، بل هو أداة، والخطر لا يكمن في استخدامه، بل في الارتهان له، حتى ننسى من نحن، ولماذا نكتب، ولمن نكتب.
هناك مجموعة من الحلول العملية والمتوازنة التي يمكن أن تساهم في مواجهة ظاهرة هيمنة “الترند” على الإعلام الرقمي، وتعيد بعضاً من التوازن بين الانتشار والجودة، أهمها:
1- إعادة تعريف معايير النجاح، فينبغي على المؤسسات الإعلامية أن تعيد النظر في طريقة تقييم الأداء، بدلاً من التركيز فقط على عدد المشاهدات أو المشاركات، يمكن اعتماد مؤشرات مثل جودة التفاعل (عمق التعليقات والنقاشات)، ومدى تأثير المحتوى في صنع وعي مجتمعي.
2- إنشاء فرق أو غرف تحرير متخصصة فقط في التحقق من صحة الترندات، قبل نشرها أو إعادة تداولها، وهذا يساعد في منع التورط في نشر الإشاعات، مثل ما حدث في إشاعة وفاة الروابدة أو محمد جمعة.
3- استخدام “الترند” كمدخل وليس كغاية، بدلاً من جعله هو المحتوى، يمكن للإعلام الذكي أن يستخدم الترند كمحرك لطرح قضية أعمق، مثلاً: إذا كان الترند حول مشاجرة في مدرسة، يمكن إنتاج تقرير يتناول أزمة التنمر أو العنف المدرسي كقضية مجتمعية أكبر.
4-إنتاج محتوى أصيل قابل للانتشار، فمشكلة بعض وسائل الإعلام أنها تركت الإبداع والابتكار وراحت تقلد صناع المحتوى، والحل هو خلق محتوى احترافي وإبداعي، لكنه أيضاً جذاب، وينتج بلغة بصرية تتماشى مع عادات المستخدم الرقمي.
5-التثقيف الإعلامي للمجتمع، فيجب أن تكون هناك مبادرات لتعليم الناس، كيفية التحقق من الأخبار، الفرق بين الخبر والتحليل والرأي، خطورة مشاركة الإشاعات، ويمكن للمدارس والجامعات ووسائل الإعلام ذاتها أن تشارك في حملات حول التربية الإعلامية الرقمية.
6-الاستثمار في صحافة البيانات والتحقيقات، بدلاً من ملاحقة كل ما هو شائع، ينبغي دعم إنتاج تقارير تحليلية وتحقيقات استقصائية تتناول جذور القضايا، وليس فقط أعراضها، هذا النوع من الصحافة يبقى طويل الأمد ويخلق تأثيراً حقيقياً.