في ظل المتغيرات المتسارعة إقليميًا ودوليًا، آن الأوان أن ينتقل الموقف العربي من مربع رد الفعل إلى مسار الفعل المبادر، من خلال صياغة رؤية استراتيجية قائمة على تحالف واقعي، تتجذر فيه مبادئ السيادة، والكرامة، والتضامن، تحت مظلة "ميثاق استقرار الشرق الأوسط".
وليس غريبًا على العرب أن يؤسسوا أحلافًا لنصرة الحق وردّ العدوان، فقد عرفوا عبر تاريخهم "حلف الفضول" الذي مثّل نموذجًا أخلاقيًا وإنسانيًا في الدفاع عن المظلوم. واليوم، نحن أمام ضرورة تاريخية لتحالف عربي حديث، يتضمن دعمًا اقتصاديًا ملموسًا، وصوتًا عربيًا موحدًا بالفعل لا بالقول، يواجه تداعيات حمّام الدم الجاري، ويمنع خطر التهجير القسري للفلسطينيين، الذي لا يهدد فلسطين وحدها، بل يزعزع استقرار المنطقة بأسرها، ويفتح أبواب التطرف كردّ فعل على التطرف الصهيوني.
إن "ميثاق استقرار الشرق الأوسط" هو استمرار طبيعي لنهج عربي راسخ في السعي للسلام العادل والشامل، على غرار مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والتي قدّمت تصورًا واقعيًا لحل القضية الفلسطينية ضمن مرجعية دولية واضحة. وهو أيضًا امتداد للمبادرة المصرية لإعادة إعمار غزة، بما تحمله من بعد إنساني وسياسي، وللموقف الأردني الثابت، الذي تجلّى في لاءات جلالة الملك عبدالله الثاني الثلاث: لا للتوطين، لا للوطن البديل، لا للتنازل عن القدس، تأكيدًا على وحدة الصف، والهوية العربية الإسلامية، وأهمية العمل العربي المشترك.
هذا الميثاق لا يأتي كردّ انفعالي على العدوان، بل كمسار واعٍ، يُجرّم الاعتداء على أي دولة عربية ضمن حدود الجغرافيا التاريخية لفلسطين، ويرسّخ مبدأ السيادة كحق غير قابل للتجزئة أو التفاوض. وهو ميثاق لا يساوم على القدس، بل يقرّ صراحة باعتبار القدس عاصمة دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967، بما يتماشى مع قرارات الشرعية الدولية.
إن الميثاق العربي الجديد لا يكتفي برفض تهجير الفلسطينيين، بل يتعاهد علنًا على رفض التهجير القسري إلى دول الجوار العربي، باعتباره جريمة إنسانية ومشروعًا خطيرًا يستهدف تفكيك النسيج العربي وتقويض الاستقرار الإقليمي.
يدعو الميثاق إلى وقف فوري لإطلاق النار، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، ولبنان، والجولان السوري المحتل، مع التأكيد على تجريم أي اعتداء على الأراضي العربية، سواء في فلسطين أو سوريا أو لبنان، ورفض استخدام القوة كأداة سياسية. فالمعادلات الأمنية لا تُبنى على أنقاض المدن، ولا يُفرض السلام عبر فوهات البنادق.
ويقوم هذا الميثاق على ركائز اقتصادية ملزمة، تؤسس لتنمية عربية شاملة، عبر شراكات عادلة تحترم استقلال الدول، وتعزز من تعاونها دون وصاية أو هيمنة. فالنهوض الاقتصادي المشترك هو الرد الحقيقي على كل المشاريع التي تؤثر على المنطقة.
الأردن، بقيادته الهاشمية، يظل حجر الزاوية في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وهو ليس دورًا رمزيًا، بل تكليف تاريخي يحمل في طياته ثباتًا لا ينكسر، ومسؤولية لا تتزحزح مهما كانت التحديات.
وما مصر والسعودية إلا جناحا هذا الميثاق المرتقب؛ مصر التي خبرت المعارك، ولم تنكسر، بل خرجت منها أكثر صلابة، والسعودية التي كانت دومًا حاضنًا للوحدة، وصوتًا متقدمًا في كل مفترق تاريخي، لا سيما في دعم القضية الفلسطينية سياسيًا وإنسانيًا واقتصاديًا.
إن هذا الميثاق لا يهدف إلى الصدام، بل إلى تحقيق ردع أخلاقي وسياسي، وتحصين المنطقة من مشاريع التوسع والهيمنة، وإعادة الاعتبار إلى دور العرب كصنّاع للتاريخ لا كمنفعلين بتداعياته.
أما أولئك الذين يتاجرون بفلسطين في العواصم البعيدة، فهم أبعد ما يكونون عن جوهر القضية، وهم معول هدم لا صوت حق، يقدمون أوراقهم على مذابح الدم، ظنًا أن الشعوب لا تميز بين من يقف معها ومن يتاجر بها.
غزة، بصمودها، أعادت البوصلة. قالت للعالم إن الأرض لا تُشترى، وإن الحقوق لا تسقط بالتقادم، وإن الأوطان تُبنى بالإرادة لا بالصفقات.
"ميثاق استقرار الشرق الأوسط" ليس مجرد صيغة سياسية، بل تعبير عن إرادة عربية متجددة، تنهض لتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ المنطقة: فصلًا تُبنى فيه السياسات على المبادئ، وتُحمى فيه الأوطان بالإجماع لا بالحياد، وتُصاغ فيه المعادلة من جديد على أساس العدالة، والكرامة، والسلام الحقيقي.
وقد كانت قمة السعودية وقمة القاهرة، تعبيرًا حيًّا عن هذه الإرادة، ورسالة واضحة بأن الموقف العربي بات أكثر وعيًا وتماسكًا. كما أن دعم سوريا ولبنان سياسيًا وإنسانيًا هو امتداد لهذه الرؤية، في سياق تحصين العمق العربي، وإعادة تعريف الأمن القومي بمنظور تضامني شامل، لا يترك دولة وحدها في وجه الأزمات.