في عالم تزداد فيه تعقيدات الجغرافيا السياسية وتشابكات الأمن الإقليمي، يُعيد الأردن وسوريا صياغة علاقتهما من منطلق الضرورة، لا العاطفة. فمنذ اندلاع الأزمة السورية في 2011، وما تبعها من فوضى أمنية وتفكك في بنية الدولة، تحوّلت الحدود الأردنية الشمالية إلى مصدر تهديد مستمر، دفع عمّان إلى تبني سياسة "الصبر الاستراتيجي" مع النظام السوري، بانتظار لحظة ملائمة لإعادة وصل ما انقطع.
اليوم، بعد أكثر من عقد من التوتر، تعود العلاقة لتُبنى من جديد، ولكن على أسس أكثر واقعية، تتجاوز شعارات الأخوة والتاريخ، إلى منطق المصالح الصلبة والمشتركة.
المطلب الأردني الأول كان ولا يزال: حدود آمنة. فتهريب المخدرات والسلاح، وتسرب الجماعات المسلحة والمتطرفة، بات يشكّل تهديدًا وجوديًا لأمن المملكة واستقرارها. العمليات النوعية للجيش الأردني على الحدود، وما تم ضبطه من شحنات كبتاغون خلال الأعوام الأخيرة، كشفت حجم الانفلات الأمني على الجانب السوري، ومدى الحاجة لتنسيق مباشر مع دمشق لضبط هذه الفوضى.
في هذا السياق، جاءت زيارة رئيس هيئة الأركان الأردني إلى سوريا، ولقاؤه بوزير الدفاع السوري، كرسالة واضحة: الأردن مستعد للتعاون، لكن أمنه ليس محل تفاوض. دمشق من جهتها، وإن أبدت مرونة تكتيكية، إلا أنها تعلم أن التعاون الأمني مع الأردن قد يكون بوابتها لاستعادة جزء من الشرعية الإقليمية.
ملف اللاجئين السوريين في الأردن لم يعد محصورًا في إطاره الإنساني. فبعد سنوات من الاستضافة، والتدهور في الوضعين الاقتصادي والخدماتي، بات الملف يشكّل ضغطًا داخليًا على الدولة الأردنية. عمّان، التي طالما نادت بحل سياسي شامل يضمن عودة اللاجئين، باتت ترى أن استقرار الجنوب السوري هو شرط أساسي لخلق مناخ آمن ومحفّز للعودة الطوعية.
ومن هنا، فإن أي تقارب مع دمشق يُنظر إليه أردنيًا كوسيلة لتهيئة الظروف السياسية والميدانية اللازمة لإعادة جزء من اللاجئين، دون الإخلال بالمعايير الدولية أو إجبار أحد على العودة القسرية.
من الجانب الاقتصادي، يسعى الأردن لتوسيع مجالات التعاون مع سوريا، خصوصًا في قطاعي الطاقة والتجارة. إعادة تشغيل خط الغاز العربي، وتأمين واردات الطاقة من خلال الأراضي السورية، يفتح أفقًا استراتيجيًا جديدًا للأردن، يمكن أن يُقلل من تبعيته في الأسواق العالمية.
كما أن الأسواق السورية، رغم الدمار، تمثّل فرصة لصادرات أردنية، لا سيما في مجالات الغذاء، الأدوية، والمنتجات الزراعية. هذه المصالح الاقتصادية، وإن كانت محدودة في الوقت الراهن، إلا أنها جزء من رؤية أردنية أوسع لتعزيز العمق الاستراتيجي شمالًا.
في المقابل، سوريا تريد من الأردن أكثر من مجرد تعاون أمني. هي بحاجة إلى دعم سياسي في المحافل الإقليمية والدولية، خصوصًا بعد عودتها الجزئية إلى جامعة الدول العربية. كما أن عمّان تمثّل، بالنسبة لدمشق، بوابة لوجستية للعالم العربي، يمكن أن تُسهم في تسهيل دخول المساعدات، وعملية إعادة الإعمار، ورفع مستوى التبادل الدبلوماسي.
سوريا، بعد سنوات من العزلة، تدرك أن بناء تحالفات إقليمية جديدة، وإن كانت محدودة، يُمكن أن يُسهم في تخفيف وطأة العقوبات، وتوفير متنفس سياسي واقتصادي لا غنى عنه.
العلاقة الأردنية-السورية اليوم ليست "تحالفًا"، وإنما تقارب مبني على الضرورة والتفاهم المرحلي. كل طرف يدرك تمامًا ما يريد من الآخر، ويحاول أن يُحقق أكبر قدر من المكاسب بأقل التنازلات الممكنة. إنه شكل من أشكال "البراغماتية السياسية" التي تفرضها وقائع الجغرافيا وحدود الجوار، أكثر مما تُمليها العواطف أو الشعارات.
إذا استمرت هذه الديناميكية، ونجحت في إنتاج تنسيق عملي على الأرض، فإنها قد تُمهّد لعلاقة أكثر استقرارًا على المدى البعيد — علاقة تحترم السيادة، وتبني على المصالح، وتُعلي من منطق الدولة.