مدار الساعة - القى الزميل الكاتب والصحفي احمد ذيبان الربيع محاضرة في رابطة الكتاب الأردنيين بعنوان (غزة الكارثة والبطولة) : جاء فيها : أبدأ هذه الندورة بسؤال محوري واشكالي يطرح في الاعلام وفي المحافل السياسية
وهو: هل أخطأت حركة حماس في تنفيذ عملية 7 اكتوبر؟
أعتقد أن الحركة كانت متأكدة من رد اسرائيلي ، وفي أسوأ التقديرات كانت تتوقع أن تستمر العمليات العسكرية شهر أو شهرين على الأكثر ، لكن أن تتحول الى حرب ابادة جماعية ومحرقة حقيقية ، وأن يسقط هذا العدد الهائل من الشهداء والجرحى ، أظن أنها كانت خارج الحسابات ، واذا كانت حركات التحرر الوطني بالضرورة تقدم التضحيات ، فان الكارثة الانسانية التي يعيشها سكان القطاع غير مسبوقة في التاريخ .
الاستراتيجية الصهيونية في الحروب ضد الجيوش العربية ، تقوم على شن حروب خاطفة وتهزم تلك الجيوش خلال أيام قليلة . والسبب الجوهري هو وجود عقيدة قتالية أو"جهادية " لدى مقاومي القسام وفصائل المقاومة الأخرى ، مستعدين للاستشهاد دون أن يستسلموا . في تجسيد حقيقي لمقولة إرنست همنغواي في رواية العجوز والبحر "الانسان لم يُخلق للهزيمة .. قد يُدمر لكنه لا يُهزم" . وهذه العقيدة القتالية كانت متوفرة بشكل فردي لدى الجيوش النظامية ، وهناك بطولات حقيقية حدثت ويحضرني في هذا المقام، قائد معركة القدس عام 1948 المرحوم عبد الله التل وغيره كثيرين .
****
في 27 من نيسان العبري تحيي دولة الاحتلال ما يسمى " ذكرى الكارثة والبطولة" ، أو ما توصف ب "المحرقة – الهولوكوست " ويسبق هذه المناسبة بثمانية أيام ما يسمى "عيد الاستقلال الاسرائيلي" ، وهو في الحقيقة تاريخ نكبة الشعب الفلسطيني الأولى عام 1948 ، وتشريد شعبها واعلان قيام دولة الاحتلال ، بدعم وتواطؤ دولي وعجز عربي.
هذه الذكرى تتعلق بمزاعم صهيونية بشأن مقتل ستة ملايين يهودي ، على أيدي النظام النازي في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية ، وهي تعني حسب المزاعم الاسرائيلية تمرد بعض “غيتوهات” اليهود في أوروبا على النازية !
مزاعم مشكوك في دقة الأرقام التي تستخدمها الحركة الصهيونية واللوبيات اليهودية ، المنتشرة في أوروبا والولايات المتحدة للابتزاز السياسي ، والحصول على دعم تسليحي واقتصادي ومالي وتعويضات هائلة، بشكل متواصل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية !
وفي ذلك الوقت لم تكن وسائل الاعلام منتشرة كما هو الحال الآن ، وبالتأكيد لم يكن في ذلك الزمن انترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ، التي حولت العالم الى قرية صغيرة يستطيع أي فرد ، متابعة أحداث العالم على الهواء مباشرة باستخدام جهاز موبايل ، أو سماع الاخبار من خلال المحطات التلفزيونية والاذاعية .
*****
وفي مقابل الغموض الذي يكتنف الرواية الصهيونية ، هناك العديد من المفكرين الأوروبيين دحضوا هذه السردية ، لعل أشهرهم المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي ، حيث شكك في كتابه "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" في الأرقام الشائعة حول ابادة يهود أوروبا ، في غرف الغاز على أيدي النازيين ، وأسقط القناع عن تلك الكذبة التي فبركتها الجمعيات الصهيونية ، بدعم ومساعدة الأحزاب الحاكمة في أوروبا وأمريكا ، ولأن الحركة الصهيونية واللوبيات اليهودية تمارس الترهيب ، ضد كل من يشكك ب"المحرقة" وتهمته جاهزة وهي "معاداة السامية" ! تم تقديم جارودي للمحاكمة عام 1998 ، وأصدرت محكمة فرنسية حكما عليه بالسجن لمدة سنة مع إيقاف التنفيذ.
ويستشهد جارودي في التشكيك بأسطورة ال "6 " ملايين يهودي ، بمذكرات «ناحوم جولدمان» رئيس المؤتمر اليهودي الدولي ، وقال فيها : " لا أعرف ماذا سيكون مصير إسرائيل، لو لم تصدق ألمانيا بتعهداتها، فالسكك الحديدية، ومنشآت الموانئ ، وأنظمة الري، وقطاعات كاملة من الصناعة والزراعة ، لم تكن لتصل إلى ما هي عليه لولا التعويضات الألمانية ، وتقدر مبالغ التعويضات التي دفعتها ألمانيا ب 100 مليار دولار.
****
لكننا منذ 7 أكتوبر - تشرين الأول من عام 2023 وحتى الان ، نعيش "محرقة حقيقية" تنقلها المحطات الفضائية والاذاعات ووسائل التواصل الاجتماعي على الهواء مباشرة ، في حرب ابادة جماعية تشنها قوات الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة ، أسفرت حتى الان ، عن استشهاد بين 50 الى 60 ألف فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء ، بالاضافة الى نحو عشرة آلاف مفقود تحت الانقاض وما يزيد عن 110 ألف جريح ، وتحويل الحياة في القطاع الى جحيم وأرض محروقة ، غير قابلة للحياة تنتشر فيها
الأمراض والأوبئة ، وتدمير مختلف مقومات الحياة والبنية التحتية وقطاع الخدمات ، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد ، وحتى المرافق التابعة لمنظمة الاغاثة الدولية " الأونروا" مثل المدارس، الذي نزح اليها مئات الآلاف هروبا من القصف لاحقتهم هجمات قوات الاحتيال .
ان ما يتعرض له قطاع غزة هو ما يستحق وصف "الكارثة والبطولة " ، حيث الدمار والقتل يطال كل شئ " البشر والحجر "، ومن جانب آخر سجلت المقاومة الفلسطينية بطولات غير مسبوقة بأسلحة بسيطة ، في مواجهة جيش مدجج بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الأميركية والغربية من أسلحة دمار ، فضلا عن ذلك يوجد شعب يعيش معاناة هائلة ، حيث يفترش النازحون الأرض أو يمضون وقتهم بين أنقاض منازلهم بلا طعام أو ماء.
ورغم ذلك يخرجون من تحت الانقاض مثل "طائر الفنيق " ، متمسكين بأرضهم وقضيتهم العادلة .
***
وبسبب الضغوط الصهيونية والدعم الغربي لها ، أصدرت الامم المتحدة في الأول من تشرين الثاني – نوفمبر عام 2005 قرارا ، يتضمن إحياء ذكرى المحرقة يوم 27 /1 من كل عام ، وأكثر من ذلك فان قرار الامم المتحدة ، يضم أيضا تعليمات وارشادات للدول المختلفة، لتطوير مناهج تعليمية والحفاظ على المناطق الاثرية المتعلقة بتخليد ذكرى المحرقة. وتم تعميمها في المناهج الدراسية للأطفال والشباب في المدارس والمعاهد الأوروبية والأمريكية، لتبرير الوجود الصهيوني في فلسطين المحتلة .
والمفارقة أن الحركة الصهيونية نجحت بإقامة كيان استعماري استيطاني ، يمثل آخر نموذج استيطاني في العالم ، رغم أن هذه الدولة تتشكل من مهاجرين قدموا من مختلف انحاء العالم ، لا تربطهم علاقة قومية بل تم دفعهم وتحفيزهم من قبل الصهيونية بشعارات توراتية – تلموذية ، تزعم أن فلسطين هي " أرض الميعاد " ! كما نجحت الصهيونية ، بترسيخ " ثقافة المحرقة " في الأدبيات السياسية الغربية ، وفرضت ذلك أخلاقيا على المجتمعات الأوروبية .
وبالمقابل فشل العرب في توحيد صفوفهم ، رغم ما يتوفر لهم من ثقافة وتاريخ واحد وجغرافيا واسعة متصلة وثروات هائلة ، وأوراق ضغط سياسية واقتصادية ودبلوماسية قوية ، لكنهم يزدادون فرقة بالاضافة الى الانقسام الفلسطيني ، بل أن كيان الاحتلال يحقق نجاحات متواصلة في اختراق صفوف العرب ، وكان أخطر ما أنجزه خلال السنوات
الماضية ، ما سمي بالاتفاقيات التطبيع " الابراهيمية "التي وقعها مع العديد من الدول العربية الخليجية والمغرب والسودان .
التحولات في العمل الفدائي الفلسطيني
شكل انطلاق حركة فتح في كانون الثاني عام 1965، ولادة حقيقية لحركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة بعد النكبة الأولى عام 1948 ، لتعيد الاعتبار لهوية الشعب الفلسطيني وشخصيته الوطنية .
وبعد هزيمة 5 حزيران عام 1967، توسع العمل الفدائي وكانت الاراضي الأردنية ساحته الرئيسية ، وانتشرت قواعد الفدائيين في الاغوار وعديد المدن .
أما تنفيذ العمليات الفدائية فقد تعددت أشكالها ، بين مهاجمة مواقع عسكرية اسرائيلية عبر نهر الأردن ، ثم الانسحاب الى القواعد الخلفية في الضفة الشرقية - منطقة الأغوار ، وكانت معركة الكرامة عام 1968 أهم تلك المعارك ، التي قاتل فيها الجيش الأردني مع الفدائيين الفلسطينيين في ملحمة بطولية ، سجلت أول انتصار عربي بعد هزيمة حزيران.
كما لجأت بعض الفصائل الى خطف طائرات مدنية واحتجاز ركابها رهائن ، أو مهاجمة مواقع في دول أجنبية كما حدث عندما هاجم مسلحون فلسطينيون ، دورة الألعاب الأولومبية في ميونخ بألمانيا عام 1972 .
بروز حركة حماس
في عام 1986 ظهر فصيل جديد هو حركة حماس وأسسها الشهيد الشيخ أحمد ياسين ، وهي تنتمي فكريا الى جماعة الاخوان المسلمين، ولها جناح عسكري اسمه " كتائب عز الدين القسام" .
وتعزز دور وشعبية حماس بعد انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 ، اثر دخول رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق آرييل شارون الى المسجد الأقصى .
وفي الانتخابات التشريعية عام 2006 ، فازت حماس وشكلت حكومة برئاسة الشهيد اسماعيل هنية ، لكن سلطة رام الله ضاقت ذرعا بذلك باعتبارها استحوذت على جزء كبير من صلاحيات رئيس سلطة أوسلو محمود عباس .
**
وبعد سيطرة (حماس) على قطاع غزة في حزيران 2007، أعلنت إسرائيل غزة "كيانا معاديا "، وفرضت عليها حصارا شاملا ، ومنذ سحبت قواتها وهي تنفذ عمليات عسكرية في القطاع من حين لآخر، بعضها تحول إلى حروب استمرت أسابيع .
كما حدث في أعوام" 2008 ، 2012 ، 2014 ، 2019 ، 2021 ، 2022 " ، وكانت أهم هذه الحروب الدائرة الان منذ 7 اكتوبر عام 2023 ، التي بدأتها حماس واسمتها "طوفان الأقصى"، وكانت هذه العملية بمثابة زلزال سياسي وأمني كسر هيبة جيش الاحتلال ، الذي رد بروح الانتقام في حرب تستهدف المدنيين والمرافق المدنية والمستشفيات والمدارس والجامعات ، وهذه الحرب ربما تكون الاولى التي يتكبد فيها العدو هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى، الذي يقدر عددهم بالالاف ، فضلا عن أسر ما يقارب 250 شخصا بين عسكري ومدني وتدمير عدد كبير من الدبابات والمركبات العسكرية .
ولمن يتساءلون : كيف لحركة مقاومة بأسلحة بسيطة مقارنة بترسانة هائلة يمتلكها جيش الاحتلال من أحدث الأسلحة الاميركية أن تصمد وتواصل القتال ؟ والجواب ببساطة ، ان النمط الفدائي تغير عما كانت تتبعه الفصائل الفلسطينية في العقود الماضية ، وما يميز كتائب "القسام" التسلح بالعقيدة "الجهادية" والروح الاستشهادية ،التي تتفوق على العدو في المواجهة والقتال الميداني من" مسافة صفر" ، بينما يستخدم العدو الطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة والسفن الحربية ويستهدف المدنيين العزل ، فضلا عن الاعداد والتخطيط الجيد ، وممارسة العمل الفدائي من تحت الأرض ، حيث أنشأت "القسام" شبكة أنفاق تحت أرض قطاع غزة تمتد لمئات الكيلومترات ، ويخرج منها المقاومون للتصدي لقوات العدو ثم يعودون اليها ، كما ان هذه الأنفاق تحتوي أيضا على ورش لصناعة الأسلحة .
ختاما
أرجو أن يكون هذا الكتاب جزءا من ذاكرة هذه الحرب الهمجية ، التي فاقت بوحشيتها كل ما ينسب الى النازية من جرائم . هل يعقل أن طائرات " اف 16 " و"اف 15" تقصف خيم النازحين ؟ هذه أول مرة تحدث في تاريخ الحروب !
كل ما يجري في غزة يؤكد كذب وزيف المواثيق الدولية ، ولا أدري كيف سيواجه أساتذة الحقوق والقانون الدولي الانساني طلبتهم ، وماذا سيدرسونهم في ظل هذه الجرائم ؟