في ظل التحديات المتسارعة التي يشهدها العالم على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أصبحت الحاجة إلى رؤية استراتيجية وطنية واضحة، أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالدولة اليوم يجب أن تسير برؤية واضحة، قائمة على أسس علمية وطموحات قابلة للتحقيق لتصبح بها الأقدر على الاستقرار والتقدم ومواجهة الأزمات.
الرؤية الاستراتيجية للدولة لا تُعد خيارا إداريا أو إطارا عاماً مرناً يمكن التلاعب به، بل هي وثيقة وطنية تُعبر عن إرادة الدولة ومصالح شعبها، وتُشكل مرجعية للعمل المؤسسي والتنفيذي. ومن هنا فإن التزام المسؤولين في جميع المواقع بهذه الرؤية هو واجب وطني وأخلاقي، لا يقبل الاجتهاد الشخصي أو التصرف خارج الإطار المؤسسي.
نحن اليوم في عالم تتزايد فيه الضغوطات وتتعاظم التحديات، سواء على صعيد الأمن أو الاقتصاد أو التنمية، ولا يمكن لأي دولة أن تُدار بردود الأفعال أو بقرارات ارتجالية، بل تحتاج إلى رؤية استراتيجية وطنية طويلة الأمد، تُرسم بدقة وعناية وتُبنى على أسس من المعرفة والخبرة والمصلحة الوطنية العليا. هذه الرؤية ليست وثيقة عابرة، بل هي عقد وطني يحدد الأولويات ويوحد الجهود، ويوجه السياسات.
وهنا يأتي احترام الرؤية الاستراتيجية للدولة التزاماً وطنياً لا يجوز تجاوزه تحت أي ظرف أو مبرر. فالمسؤول الذي يتبوأ مكاناً قيادياً، إنما هو المؤتمن على تنفيذ هذه الرؤية، وليس من حقه إعادة صياغتها أو الالتفاف عليها وفق رؤيته الشخصية أو مصالح ضيقة، حتى وإن بدا له أن ما يفعله يصب في مصلحة المؤسسة أو القطاع الذي يديره. لأن تجاوز الرؤية تشتيت للجهود وإضعاف للثقة، كثير من الدول النامية عانت وما زالت من الإخفاق في تحقيق رؤاها التنموية، ليس بسبب ضعف في التخطيط، بل نتيجة لعدم التزام بعض المسؤولين بتنفيذ الرؤية كما ُضعت. إذ تتحول المؤسسات إلى جزر معزولة، كل منها يعمل وفق أولوياته الخاصة، دون تنسيق، ودون التزام بالمستوى الوطني الأشمل والنتيجة تضارب في السياسات، وهدر في الموارد، وتأخير في الإنجاز.
المسؤول الذي يتجاوز الرؤية الاستراتيجية لا يخطئ فحسب، بل يُربك المسار الوطني ويعرض التماسك المؤسسي للخطر. فالمشكلة ليست قراراته فقط، بل عن تأثيرها طويل الأمد على الدولة بأكملها.
ان الفرق بين القيادة والاجتهاد الشخصي، أن الأولى تسير ضمن بوصلة وطنية واضحة، بينما الثانية قد تأخذ الدولة في اتجاه مجهول. لذلك، فإن من جوهر الحوكمة أن يُبنى الأداء التنفيذي على التنسيق والتناسق لا على التجريب، وعلى الالتزام لا على الارتجال. وهنا تتحول الرؤية الى مرجع تشريع واداري تقاس عليه جميع وكل القرارات، وتتم محاسبة كل من يتجاوزها أو يُعيق تنفيذها.