في الأزمنة التي تتداخل فيها الظلال مع الأشباح، ويعلو صدى الوهم على صوت الحقيقة، يُصبح القرار أكثر هشاشة من ورقةٍ في مهبّ ريح. القرار ليس توقيعًا إداريًا ولا أمرًا نافذًا بسلطة مؤقتة، بل هو نبضُ الوعي، ومحصلةُ عقلٍ ناضج، وتجربةٍ متأملة، وضميرٍ يزن الكلمة بميزان المصير.
المأساة لا تبدأ حين يُخطأ القرار، بل حين يُسلَّم لمن لا يعرف الفرق بين الفكرة والمعلومة، بين الموقف والواجهة. حين يُمنح لوجوه صعدت بالرفع الاصطناعي لا بعرق التجربة، يغدو الوطن حقل تجاربٍ في يد هواة، وتصبح القيادة قناعًا لا رؤية تحته. هؤلاء يظنون أن السلطة سلعة، وأن الحكم يُستورد كما تُستورد البضائع، فينطقون عن المستقبل بلسانٍ لم يقرأ التاريخ، ويخطّطون لمصائر الناس كما تُحرّك أحجار لعبة لا تعنيهم نتائجها.
أيعقلُ أن يُؤتمنَ السيفُ للعبثِ،
ويُؤخذَ للرأيِ مَن لم يذُقْ لَهَبَ الحرفِ؟
القرار، حين يُولد من عقل غير ناضج، يكون مجرّد صدى في الفراغ؛ لكن حين يُولد من قلب بلا ضمير، يكون خيانةً للمستقبل. الجهل يمكن تداركه، أما غياب الضمير فنتيجته هدمٌ متواصل في أركان العدالة. وكم من قرار تزيّن بلغة الحكمة، وهو في جوهره تفصيلٌ على مقاس الهوى والمصلحة، لا على قياس الوطن.
تُقصى الكفاءة، وتُتهم المعرفة بالتنظير، وتُعامل النزاهة كعقبة. في المجالس الرسمية، يُسمع من لا يُجيد الإنصات، ويُرفع من لا يحسن حتى الصمت، فيغدو القرار عبثًا متكرّرًا، والمستقبل مُعلّقًا في فم العشوائية.
في تلك اللحظة، حين يتكلم الجهل باسم السلطة، يُقصى المفكر، وتُكمّم أوراق الباحث، لأن الحقيقة تُخيف من عاشوا على الوهم. يخافون النور، لأنه يفضح هشاشتهم، ويخشون الفكرة، لأنهم بلا فكرة. فتصبح المناصب جدرانًا عازلة، وتُمنح الثقة لمن لا يملك عمق السؤال، ولا أمانة الجواب.
وانا اقول :
إذا ما غابَ عن القرارِ وعيٌ،
أتى الخرابُ في موكبٍ رسميٍّ يُصفَّقُ له.
يُقال: "لا تُرسل الرسالة مع من لا يُجيد القراءة." لكننا اليوم نسلّم رسائل الأوطان لمن لا يُجيد حتى الفهم، ونطالب بالنهضة ممّن لم ينهضوا بأنفسهم. فلا عجب إن رأينا الفشل يُتوج كنجاح، والتراجع يُقدّم كحكمة، لأن الموازين بيد من لا يعرفون وزن الأمور، ولا يعرفون أن القرار ليس منصبًا يُحتل، بل مسؤولية تُحمل.
القرار الذي لا يمرّ عبر بوابة الفهم، يخرج من باب الخيبة.