في بهجة الذكرى التاسعة والسبعين لاستقلال الأردن، وجدتني أرتحل إلى الفلسفة قبل أن ألامس ملامح الاحتفال. فالاستقلال ليس حدثًا سياسيًا فحسب، بل تجربة داخلية تشبه تنفُّس الروح حين تخرج من قبضة الخوف.
هو شبيهٌ بتلك اللحظة التي يعترف فيها الإنسان لنفسه بأن الكرامة شجرة أصلها القلب، لا يراها إلا من سكن الصدق وعاش في ضوء الحق، لا في ظلال الشعارات.
لا أتحدث عن علم يُرفرف أو نشيد يصدح، بل عن تلك المسافة الخفية بين الذات وضميرها، حين تكتشف أن الحرية موقف، لا مجرد حالة.
تكريم الملك عبد الله الثاني لنخبة من المبدعين والمبدعات لم يكن احتفالًا شكليًا، بل اعترافًا بأن الإبداع أحد ملامح السيادة؛ وأن الفكر، لا السلاح وحده، يحمي الحدود.
في تلك اللحظة، بدا الوطن كأنه يعيد تعريف الانتماء؛ لا كصيحةٍ عابرة، بل كفعلٍ يومي من الاجتهاد، من مقاومة اليأس، من الإصرار على صنع المعنى رغم فوضى العالم.
الوجوه التي صعدت المنصة لم تكن مجرد أسماء لامعة، بل علامات على طريق وطنٍ يؤمن أن التفوق لا يُمنح، بل يُنتزع بالإرادة.
كأننا بهذا التكريم نعلن أن الاستقلال ليس تذكارًا من الماضي، بل جسارةٌ تُختبر كلّ يوم في تفاصيل صغيرة: في مكتبة، أو قصيدة، أو وقوفٍ كريم عند ناصية الألم.
الاحتفال هذا العام بدا كقصيدة تقرأها الروح وسط ضجيج العالم؛ لا تُبهرك ألوانها، بل يأسرك نبضها الصادق. كانت الوجوه المُكرّمة مرآة تقول لنا: إن أثمن ثروات الأردن لا تختبئ تحت الأرض، بل تنبض في العقول والقلوب.
وفي عمق اللحظة، تعلّمت أن الاستقلال لا يبدأ من الخلاص من استعمار خارجي، بل من تحررنا من استعمار داخلي: الخوف، التبعية، ضيق الأفق، الكسل عن أن نكون أعظم.
أن تكون مستقلًا، هو أن تحوّل كلّ يوم إلى نسخة أكثر نقاءً من الأمس، وأن تُعامل الوطن كحلم لا كإحداثيّ على الخريطة.
أقولها كما هي: في عيد الاستقلال، لا نحتاج إلى شعارات نردّدها، بل إلى ضمير نُصغي إليه. إلى أن نُكرّم فينا ذلك الطفل الذي أراد أن يكون عظيمًا، رغم كل العوائق.
هكذا بدا لي العيد: طقس تأمل في مرآة الذات، نعيد فيه ترتيب علاقتنا بالأردن، لا كأرض فحسب، بل كفكرةٍ حيّة... حلمٌ لم ينتهِ بعد.