في كلمة واثقة وواضحة خلال منتدى تواصل يوم السبت، قدّم سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني رؤية جريئة لمستقبل الأردن، قائمة على تجاوز النمط التقليدي في التفكير والتخطيط، والانتقال إلى فضاء أوسع من التجريب والتنفيذ، ومبنية على ثقة عميقة بقدرات الشباب، وإيمان صريح بأهمية التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في صناعة التغيير. لم تكن كلمة بروتوكولية عابرة، بل كانت خريطة طريق عملية تدعونا لثورة هادئة على البيروقراطية، وللتحرر من عقدة الكمال، والانطلاق في تنفيذ النماذج الواقعية ولو كانت بسيطة في بدايتها.
أبرز ما ميّز كلمة سموه هو تأكيده على ألا ننتظر الحلول الجاهزة ولا نغرق في الجدل النظري. فالأفكار لا تنضج إلا من خلال التجريب، والخطأ ليس فشلاً بل خطوة على طريق النضج، والإعادة ليست تراجعاً بل تطوير وتحسين. هذه الروح التي يدعو إليها سموه هي عماد النهضة في أي مجتمع، وهي التي تميز الأمم التي تتقدم بثقة على غيرها. إن بناء حالات استخدام حقيقية، واختبار تقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاعات الصحة، والتعليم، والزراعة، والطاقة، والنقل، هو بداية صحيحة نحو أردن رقمي متقدم.
ولعل الذكاء الاصطناعي، الذي خصه سمو ولي العهد بأمثلة واقعية، ليس ترفاً تكنولوجياً، بل ضرورة استراتيجية. حين تُوظّف خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تشخيص الحالات الطبية النادرة عن بُعد، أو في تطوير مساعدين افتراضيين شخصيين للطلبة، أو في تحسين كفاءة استخدام الموارد الشحيحة مثل المياه والطاقة، فإننا لا نكون فقط قد واكبنا العالم، بل قد تقدمنا بخطوات في تقديم حلول أردنية للعالم. وهذه الحلول، كما أشار سموه، يمكن أن تنبع من بيئتنا، من هويتنا، ومن احتياجاتنا، لا من نسخ نماذج عالمية لا تناسب واقعنا.
كلمة سموه تضعنا أمام تحدٍ وطني: إما أن نبقى في موقع المستهلكين للتكنولوجيا، أو نتحول إلى موقع المنتجين والمبدعين والمؤثرين فيها. والذكاء الاصطناعي هو أحد أكثر المجالات قدرة على تسريع هذا التحول، إذا ما ربطناه برؤية وطنية، واستثمرنا في الكفاءات الشابة، وهي كثيرة ومبشرة، ووفّرنا لها بيئة تجريب مرنة، وتمويلاً أولياً، وشراكات حكومية داعمة.
الأردن يملك ما لا تملكه كثير من الدول: طاقات بشرية مدرّبة، واستقرارا سياسيا، ورؤية ملكية تؤمن بالشباب، ودعماً مباشراً من سمو ولي العهد لتبني تقنيات المستقبل. لكن ما نحتاجه اليوم هو قرار جماعي بأن يكون الذكاء الاصطناعي مشروع دولة، لا مشروع أفراد، وأن يتم التعامل معه كأداة لحل التحديات الوطنية، لا مجرد تقنية نخبوية. المطلوب هو تحويل كل مؤسسة إلى مختبر للتجريب، وكل قطاع إلى ورشة للابتكار، وكل موظف شاب إلى شريك في التغيير، عبر الذكاء الاصطناعي وسائر أدوات الثورة الصناعية الرابعة.
حين تحدث سمو ولي العهد عن مجلس تكنولوجيا المستقبل، فقد أشار ضمناً إلى حاجة المؤسسات العامة إلى ثقافة جديدة في التفكير وفي منهجية العمل. الذكاء الاصطناعي، إن أُحسن توظيفه، يمكن أن يكون منصة لهذا التحول: في اتخاذ القرار، في توزيع الموارد، في تحسين الخدمات، وفي تعزيز الشفافية والرقابة. لا حديث عن جودة خدمات في القرن الحادي والعشرين دون حديث عن خوارزميات ذكية، ولوحات متابعة لحظية، وأنظمة توقع مدعومة بالبيانات.
اليوم، لم يعد قياس التقدم مقصوراً على عدد المصانع والمباني، بل على عدد الأفكار التي تتحول إلى نماذج، وعدد النماذج التي تتحول إلى منتجات، وعدد المنتجات التي تصنع أثراً. وهنا، الذكاء الاصطناعي هو الوسيلة لا الغاية، والتمكين هو السلاح، والتجريب هو الطريق.
كلمة سمو ولي العهد هي نداء صادق لكل من في موقع المسؤولية: دعوا الشباب يبدؤون، دعوهم يخطئون ويتعلمون، دعوهم يبنون النماذج ويوسعون الأفق. فالمستقبل لا ينتظر المترددين، وإنما يفتح بابه لمن يملك الجرأة على الحلم والعمل.
إن الاستجابة لكلمة سمو ولي العهد يجب أن تُترجم فورًا إلى مبادرات تنفيذية، إلى مختبرات تجريبية، إلى شراكات بين الحكومة والجامعات والشركات الناشئة، إلى خطة وطنية لتوطين الذكاء الاصطناعي، ليس فقط كمجال تقني، بل كرافعة اقتصادية واجتماعية وسيادية. العقول الأردنية قادرة على المنافسة، فقط إن وثقنا بها، ومنحناها الأدوات، ورفعنا عنها أثقال البيروقراطية والتردد.
كما قال سموه في ختام كلمته: «العقول النيرة، هي التي تبني الأوطان وتعزز البنيان وتصنع الفارق الذي نريد.» نعم، وهنا أقول إن الذكاء الاصطناعي هو إحدى أدوات تلك العقول لتصنع مستقبلاً يليق بالأردن وبشبابه.