من منا لا يدرك أن الإدارة، في جوهرها، ليست مجرد سلطة أو هيكل تنظيمي؟ بل هي انعكاس عميق لثقافة المجتمع، ومؤشر دقيق على منظومة القيم التي يحملها. فالإدارة الرشيدة لا تُقاس بكمّ اللوائح أو دقة التشريعات، بل بروح من ينهض بها، وبقيم القائمين على تنفيذها.
الإصلاح، حين يُراد له أن يكون حقيقيًا، يبدأ من حسن الإدارة لا من تعديل الأنظمة فحسب. إذ ما نفع القوانين إن خلا المنفذ من النزاهة؟ وما جدوى الهيكلة إن غابت عنها الكفاءة؟ فالمتانة في العمل العام هي أولى خطوات الإصلاح، وهي عماد من يريد بناءاً بمستوى الطموح والرسالة.
وقد آن الأوان أن نتحرر من معضلة "المجاملات" التي تسربت إلى مفاصل كثيرة، فعظّمت من لا يستحق، وأقصت الكفاءات الصادقة العاملة في الميدان، أولئك الذين يحملون الخبرة، والضمير، والانتماء. فحين يُكافأ المتقاعس، ويُهمّش المبدع، يختل ميزان التقدم.
ويستحضرنا في هذا المقام قول جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المفدى: "قيمة الإنسان بقدر ما يقدم لوطنه، لا بقدر ما يأخذ منه". وما أبلغها من عبارة، تُلخّص فلسفة القيادة الهاشمية في تمكين الإنسان، والرهان على العطاء، لا على الامتيازات، وعلى الخدمة العامة، لا على المصالح الشخصية.
أبناء هذا الوطن أثبتوا، عبر عقود، أنهم طليعة الأداء والخبرة في العالم العربي، والمستشارون الأمناء في المؤسسات الإقليمية. واليوم، ونحن على مشارف تحولات إقليمية، خاصة في علاقتنا العميقة بسوريا، لا بد أن يكون النهج الأردني، في الإدارة والدبلوماسية، على قدر الشخصية الأردنية المتميزة، التي جمعت بين الحكمة والاتزان والكرامة.
ننظر إلى رجالات الدولة من وزراء، وأمناء عامين، وموظفين في مختلف المواقع، فنراهم مرآةً صادقةً لقيم هذا الوطن الذي أراده الهاشميون أن يكون منارةً وأيقونة استقرارٍ في محيطٍ مضطرب، وملاذًا للعدل والضمير العربي، وسندًا لفلسطين وسوريا، ولكل شقيق تقطعت به السبل.
وفي هذا السياق، لا بد أن نُدرك أن قضية الإدارة ليست شأناً إجرائيًا فحسب، بل هي قضية أمن وطني بامتياز؛ في ظل تحديات متنامية. فالإدارة الرشيدة حصن منيع، ودرع وقائي، يجب أن تُفَوَّت من خلاله الفرصة على أعداء الوطن، تمامًا كما تحميها الجيوش من التهديد الخارجي.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى مراجعاتٍ جادة، وغربلةٍ شاملة، تُعيد الاعتبار للكفاءة على حساب المجاملة، وللميدان على حساب المكاتب، وللقيم على حساب العلاقات. فقد آن الأوان أن نُعيد الاعتبار لمن يستحق، وأن نبني إدارة وطنية، صادقة، تعكس جوهر الأردني الأصيل، وتكون نبراسًا للمستقبل...