في كل عام، يتكرر المشهد ذاته في آلاف البيوت الأردنية. تتغير الوجوه، لكن القلق ذاته، والدموع ذاتها، والسهر، والضغط، والأنفاس التي تنحبس كلما اقترب الامتحان... اسمه "التوجيهي"، لكنه في قلوب الناس شيء أعظم، أو ربما شيء أثقل بكثير.
هو ليس مجرد اختبار يقيس مستوى الطالب الدراسي، بل أصبح اختبارًا لنَفَس العائلة، لقدرتها على الصبر، لتحمُّل الضغط، للخوف على الأحلام التي قد تنهار في ورقة امتحان واحدة.
الأب... يحترق بصمت
الأب، ذاك الجبل الصامت، يتحوّل في سنة التوجيهي إلى ظلٍ قَلِق، يسير على أطراف أصابعه، يخاف أن يصدر صوتًا يشتت تركيز ابنه أو ابنته. يحمل همّ المصاريف، وهمّ المستقبل، وهمّ المجتمع الذي يترصّده بالسؤال المزعج: "شو عمل ابنك بالتوجيهي؟"
الأم... نبض يتقلب بين الدعاء والخوف
أما الأم، فتصبح قلبًا يمشي على الأرض. تقرأ الأدعية كل صباح، تبكي سرًا كل ليلة، وتحاول أن تبني من كلماتها طمأنينة لا تملكها هي أصلًا. تطبخ ما يحب، وتجهز القهوة، وتغلق الستائر، وتحاول أن تخلق من البيت جنة هادئة لا يعكر صفوها إلا صوت قلبها المرتجف.
الطالب... بين الحلم والهاوية
أما الطالب، ففي داخله حرب صامتة. يريد أن ينجح، يريد أن يفرح والديه، يريد أن يتنفس، لكنه يختنق. يدرس وهو يشعر أن مستقبله كله معلق على رقم. يخاف من السقوط، لا لأن السقوط نهاية، بل لأن المجتمع يعامله كعار. في بلدنا، لا يُقاس الإنسان بما يحب، بل بما حصل عليه في "التوجيهي".
إلى متى؟ سؤال لا بد أن يُسأل
إلى متى نظل أسرى هذا الرعب المجتمعي؟ إلى متى سيبقى امتحان الثانوية العامة هو المقياس الوحيد لنجاح الإنسان أو فشله؟ أليس من حق أبنائنا أن يحلموا، أن يخطئوا، أن يتعلموا من الخطأ لا أن يُعاقبوا عليه؟
التوجيهي يجب أن يكون مرحلة، لا محكمة. محطة، لا نهاية. ويجب أن نُعيد النظر في نظرتنا المجتمعية له، لأننا بهذا الضغط نخسر أبناءنا مرتين: مرة حين يخافون من الامتحان، ومرة حين لا يجدون من يفهمهم بعده.
في الختام...
أيها الأب، أيتها الأم، أيها الطالب... أنتم لستم وحدكم. الألم مشترك، والخوف مشروع، لكن الأمل لا يزال ممكنًا. دعونا نحلم بوطن لا تُقاس فيه قيمة الإنسان برقمه، بل بأخلاقه، شغفه، وإصراره. فالحياة لا تبدأ ولا تنتهي في "التوجيهي"، بل تبدأ عندما نؤمن أن كل شخص له طريقته الخاصة في النجاح... وأنه لا رعب يليق بنا، مهما كان اسمه.