أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات جامعات مغاربيات خليجيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

حدادين يكتب: الشر في صورة بروتوكول


المحامي الدكتور يزن دخل الله حدادين

حدادين يكتب: الشر في صورة بروتوكول

مدار الساعة ـ
منذ نحو أسبوع، تفجّر الصراع بين إسرائيل وإيران بشكل غير مسبوق، لكنه – في نظري – ليس مجرد تصعيد عسكري تقليدي أو خلاف إقليمي. ما نشهده الآن هو انكشاف لتصدّع فلسفي عميق في مفاهيمنا عن الدولة، والعنف، والعدالة، وحتى عن الإنسان ذاته. ما يهمني هنا ليس تحليل تفاصيل المعارك أو توقّع النتائج، بل التوقف عند البنية الفكرية التي تجعل هذه الحرب ممكنة – بل مبررة أحيانًا – في وعي أطرافها.
أتأمل في هذا السياق مسألة التبرير الأخلاقي للحرب: ما الذي يجعل ضربة استباقية ضد منشآت نووية "مشروعة"؟ وهل يكفي التهديد المحتمل لتبرير القتل الفعلي؟ تعود هذه الأسئلة إلى نظرية الحرب العادلة، التي تستند إلى مفاهيم مثل التناسب والتمييز والضرورة، لكن ما يحدث فعليًا يتجاوزها أو يفرغها من معناها. عندما تُستهدف مؤسسات علمية كمركز وايزمان، أو حين تتحوّل المستشفيات إلى أهداف، لا يمكنني أن أرى في ذلك سوى محاولة لضرب رموز الوجود المدني والمعرفي، لا فقط قدرات عسكرية.
ما يلفتني أيضًا هو العلاقة المقلقة بين المعرفة والعنف. في هذه الحرب، أصبح العلم نفسه – بما يحمله من رمزية وحيادية – جزءًا من الجبهة. فالعلماء يُغتالون، والمراكز البحثية تُقصف، وكأن هناك رسالة ضمنية مفادها أن "الفكر خطير إذا كان للعدو". في هذا السياق، بدا لي أن الحرب تتجاوز تدمير الجسد إلى استهداف الوعي، وهذا ما يجعلها، برأيي، أكثر عنفًا وأشد خطورة من مجرد تبادل للصواريخ.
ربما هنا يمكن استحضار مفهوم "البيو-سلطة" لدى فوكو، حيث تصبح الحرب وسيلة لإدارة الحياة والموت لا فقط على المستوى العسكري، بل في عمق المجتمع ذاته: صحته، معرفته، حركته. الهجوم على المستشفيات والجامعات ليس عبثيًا، بل هو جزء من منطق سلطوي يتعامل مع الإنسان كموضوع للسيطرة لا كغاية.
وفي قلب هذا كله، يطفو التهديد النووي بوصفه محورًا فلسفيًا بامتياز. هل الردع ممكن دون تدمير؟ هل يمكن امتلاك قدرة على المحو دون أن تتحوّل إلى عبء وجودي؟ هذه الأسئلة تجعلني أستحضر عبثية كامو: حين تصبح كل الخيارات سيئة، وعندما يتحوّل المنع إلى ذريعة للتصعيد، نكتشف أن العالم تحكمه مفارقات لا منطق لها إلا منطق الخوف.
ما يثير قلقي أكثر هو انهيار مفهوم السيادة كما نعرفه. الحروب لم تعد تدور فقط داخل الحدود الجغرافية، بل تتجاوزها إلى السايبر، إلى الجو، إلى الحروب الإعلامية والرمزية. لم تعد الدولة تُعرّف بحدودها بل برموزها: منشآتها النووية، مستشفياتها، علماؤها. وهنا، تصبح الحرب اختبارًا وجوديًا لكل ما يُعبّر عن "الذات القومية"، لا فقط اختبارًا للجيش.
أما على المستوى الجيوسياسي، فأنا أرى في هذا الصراع امتدادًا لصراع أعمق بين رؤيتين للعالم: رؤية تقنية ذرائعية تعتمد على التفوق التكنولوجي، وأخرى رمزية أيديولوجية ترى في المقاومة شكلًا من أشكال تحقيق الذات والاعتراف. وفي هذه الثنائية، تغيب أي لغة مشتركة، لأن كل طرف ينتمي إلى عالم معرفي مختلف تمامًا.
ربما أكثر ما يطاردني هو هذا الشعور بأن ما يحدث الآن ليس مجرد فشل دبلوماسي، بل فشل فلسفي مدوّ. فشل في تجاوز منطق العنف، فشل في بناء نظام عالمي يتّسع للتعدد، وفشل في ترويض القوة لحساب العقل. والأخطر، في رأيي، هو أننا رغم كل التقدم العلمي والتقني الذي نملكه، ما زلنا نحتكم إلى الصواريخ كأداة لحل الخلاف.
الحرب بين إسرائيل وإيران، كما أراها، ليست مجرد اشتباك مؤقت، بل علامة على مفترق طرق وجودي. خيار بين أن نبني عالمًا جديدًا يُعيد تعريف العدل والحوار، أو أن نستمر في إعادة إنتاج نفس الدائرة الجهنمية التي تُحيل الحياة نفسها إلى هامش في معادلة البقاء. وإذا كنا نملك القدرة على هذا التدمير الذكي، فالسؤال الحقيقي الذي يلحّ عليّ هو: لماذا لا نملك شجاعة العقل، لا فقط شجاعة السلاح؟
مدار الساعة ـ
story