أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة شهادة مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف جامعات خليجيات دين مغاربيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

البواريد يكتب: الذين يخافون من الغياب أكثر من الموت


منصور البواريد

البواريد يكتب: الذين يخافون من الغياب أكثر من الموت

مدار الساعة ـ

لا تعني الحرب بين إيران وإسرائيل فقط اشتباكًا عسكريًّا أو تجاذبًا إقليميًّا، بل تعني ارتجاجًا في البنية العميقة لما نسميه "الوجود السياسي". هذه الحرب ليست نتيجة قرار طارئ، فهي استمرار منطقي لزمن لم يتوقف عن إعادة إنتاج الخطر كأداة حكم، إنَّها ليست نزاعًا على الأرض، بل على المعنى، فمن يمتلك القدرة على تعريف "من هو"، ومن يُترك خارج التاريخ..

في الفلسفة الوجودية، كما طرحها مارتن هايدغر، لم تعد الكينونة شيئًا بديهيًّا أو خلفية صامتة للوجود، بل أصبحت السؤال المركزي. في كتابه العميق الوجود والزمان (Sein und Zeit)، ميَّز هايدغر بين الكائن (Seiendes)، أي كل ما هو موجود فعليًّا من أشياء وأفراد، وبين الكينونة (Sein)، أي "الوجود في أصله"، الذي يسبق كل كائن ويمنحه معناه. حين ننظر إلى الصراع بين إيران وإسرائيل من هذا المنظور، نرى أنَّهما وإن ظهرا كقوتين صاخبتين إلا أنَّهما يسعيان، كل بطريقته، لإثبات كينونتهما في عالم يُسائل الجميع عن جدوى وجوده.
إسرائيل لا تقاتل من أجل أمنها فحسب، بل من أجل أن تبقى "هي"، أن لا تتلاشى في تشوش الشرعية والزمن، وإيران لا ترد فقط بصواريخ، بل بما تعتبره "حقًّا في الوجود" كقوة ذات سردية، ذات مشروع. وما أمريكا إلا الحَكَم الخفي الذي لا يدخل الحلبة، بل يصنع شروطها. إنَّها لا تحتاج إلى النصر، بل إلى استمرار المباراة، تريد من هذه الحرب أن تبقى قابلة للاستثمار، تُغذِّي حاجتها للنفوذ، وتُبقي الجميع مشغولًا بالسؤال عن الذات بدلًا من الجواب عنها.
لكن؛ في هذا الزحام الوجودي المحموم، يظهر الأردن كاستثناء. دولة لا تتوسل الكينونة بالصوت العالي ولا بالتدمير، بل تثبتها بالصبر، وبالثبات وبالتطور الهادئ وسط العواصف، فلا تحتاج عمَّان إلى إعلان وجودها عبر الحرب، لأنَّ وجودها لا ينبع من فائض القوة، بل من عمق المعنى. ولقد بُني الأردن على فكرة البقاء لا كردة فعل، بل كفعل معرفي، كفعل مسؤول. فكل الحروب والخطط التي أُديرت من حوله، من احتلال العراق، إلى تفكك سوريا، إلى انفجار فلسطين، إلى صعود إيران، إلى انهيار ليبيا، لم تُسقطه، بل زادت من صلابته، لا لأنَّه محايد، بل لأنه عارف.
فيصبح إدراك المواطن الأردني لمعنى الوطن ضرورة فلسفية، لا فقط سياسية. فالوطن ليس مجرد أرض وسلطة وسيادة، بل هو كما قال الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو "ذلك الشيء الذي نموت من أجله حين لا يكون له اسم". والوطن في الفلسفة العربية الحديثة، ليسَ مجرد انتماء جغرافي، بل كما قال محمد عابد الجابري: "الوطن هو شرط العقلانية السياسية"، أي أنَّ الإنسان لا يصبح فاعلًا أخلاقيًّا وسياسيًّا إلا إذا أدرك حدوده، وتاريخه، والمجال الذي ينتمي إليه.
فالوطن ليس ما نحمله في الأوراق، بل ما نتحمله في الوعي.
الأردن لا يقف في الحياد، بل في الوعي. وهايدغر، حين كتب عن "الوجود الأصيل"، أراد أن يدعونا لأن نكون لا كما يطلب منا ، بل كما نُقرر نحن أن نكون. والجابري من جهته، طالبنا باستعادة "العقل العربي" ليكون أداة للمعنى، لا ضحية للتكرار. والأردن قرر أن يكون وطنًا يتجاوز الضجيج، دولة تفهم أنَّ الخطر الحقيقي ليس في الخارج، بل في نسيان الذات، في تفريغ الكينونة من معناها. وبينما تدار الحروب لتعيد رسم الخرائط، فإنَّ عمَّان ترسم وجودها من دون أن تنجر لجنون إعادة التشكيل، بل بصبر الفلاسفة الذين يعرفون أنَّ الزمن لا يُهزم، بل يُفهم.

مدار الساعة ـ