حين يصبح الدين والخلق خارج معادلة الزواج و انهيار البنية الأخلاقية للمجتمع الحديث
“إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”
حديثٌ نعرفه، نحفظه، نُردده على المنابر وفي الخُطب، ثم نتجاوزه ببرود حين يحين وقت التطبيق.
فكيف وصل بنا الحال إلى زمنٍ أصبح فيه هذا الحديث كأن لم يكن؟
زواج بلا معيار… واختيار بلا أساس
لم تعد منظومة الزواج اليوم تُبنى على معايير النبوة، بل على “كتالوج” عصري مسموم: كم راتبه؟ هل يملك بيتاً؟ هل بشرتها بيضاء؟ هل طريقتها في الكلام “كيوت”؟
أما الدين والخلق؟ فهما آخر ما يُسأل عنه، وإن سُئل، فسؤال تجميلي، لا تحقيقي.
تقدِّم المرأة اليوم نفسها في السوق المجتمعي، كما تُقدَّم السلعة، ويأتي الرجل أيضاً متجمّلاً متكلفًا في القول والهيئة، والنية في الغالب: إتمام المشهد، لا بناء الأسرة.
فمن يضمن الصدق قبل الزواج؟ من يضمن أن ما يُقال في اللقاءات والمكالمات والزيارات هو الحقيقة؟
لا أحد.
وهنا مكمن الخلل: نُقصي صاحب الدين بحجة الغلظة، ونُبعد صاحب الخلق بحجة الملل، ثم نُقحم السوق والعادات والتقاليد والتوقعات في أكبر قرار مصيري يحدد مصير المجتمع بأكمله.
“النظرة الشرعية” كما شوهتها الريلز والبودكاست
كانت “النظرة الشرعية” في أصلها طريقة للتعرف على ملامح الخَلق، دون خلوة أو اختلاط، وكان الغرض منها تحقيق السكينة لا إثارة الإعجاب.
أما اليوم، فقد تحولت إلى حلقة “مقابلة عمل”، تتناثر فيها أسئلة من قبيل:
• ما اهتماماتك؟
• تحبين القراءة؟
• كم تتوقعين المصروف؟
• ما موقفك من “المساواة”؟
كل هذا في ظل منصة تصوير وتوثيق داخلي، تُصنّف فيه الفتاة الشاب، ويُسجّل الشاب انطباعاته عن الفتاة.
لقد خُنّا المقصد الشرعي، وسقطنا في فخ “النظرة الحداثية”، التي تُقدّم الزواج كشراكة ربحية، لا ميثاقًا غليظًا.
غياب الولي: أزمة سلطة ومسؤولية
في قلب كل مجتمع متماسك، أبٌ مسؤول، يعرف متى يتقدم، ومتى يتأخر، ومتى يُمسك بزمام القرار.
أما اليوم، فنرى الآباء يُسلّمون القرار لبناتهم تحت لافتة “لن أُجبرها”، ويغيبون عن المشهد تحت شعار “هي حرة”.
لكن هل الحرية هنا مطلقة؟ وهل الاستقلال يعني الانعزال عن التوجيه؟
لقد جعل الشرع سكوت المرأة علامة رضا، لا غيابًا لصوت الأب.
السكوت ليس خنوعًا، بل لغة ثقة. والولاية ليست وصاية، بل ضمان. لكن حين تفقد المجتمعات البوصلة، تُحوّل المفاهيم الشرعية إلى أدوات ضغط نفسي، وتُشيطن دور الأب وتُقدّس فوضى الفرد.
عنوسة اختيارية… وزواج مؤجل بسبب الخوف والشك
في زمن كثُر فيه التجمُّل والكذب والتمثيل، أصبح الشباب يخاف من الزواج أكثر من خوفه من الوحدة.
صار يسأل نفسه:
• هل كانت لها تجارب؟
• مع من تحدثت؟
• هل ستخونني؟
• هل ستحترمني إذا قلّ المال؟
• هل تُحبني لشخصي أم لما أملك؟
ويُحاط هذا الشاب بحالات طلاقٍ بالجملة، وقصص خيانة، وصور مزيّفة من تجارب الآخرين، فينكمش في ذاته، ويؤجل القرار، وتخبو الرغبة، وتتآكل الثقة.
هنا لا تكون “العنوسة” قَدَرًا، بل نتيجة نظام اختياري مشوَّه.
انهيار منظومة القيم: من الأسرة إلى الأمة
يقول ابن خلدون: “إذا فسد القيم سقط العمران”، وأي عمرانٍ هذا الذي نطمح إليه دون أُسرٍ متماسكة؟ فالأمم لا تنهار من أطرافها، بل تبدأ شقوقها من داخل بنيتها الأخلاقية، من البيت، من الزواج، من فقدان المعيار.
ومن هنا، يُكمل عبد الوهاب المسيري هذا المعنى من زاوية أخرى، فيقول: “كلما فُقد المعنى في الزواج، تحولت العلاقة إلى عقد مادي هش”.
وكأنما كُلٌّ منهما — رغم تباعد الزمان — يُنذرنا بأن سقوط القيم في العلاقة الزوجية هو بداية انهيار العمران الإنساني ، ونحن نعيش اليوم هذا الفقد:
• ضعف دين .
• لا خلق ضابط.
• لا أب مُوجِّه.
• لا أم ناصحة.
• لا إعلام صادق.
• ولا رغبة حقيقية في بناء بيت… بل في بناء مشهد زواج قابل للتوثيق والانهيار.
العودة إلى الجذر: حديث نبوي أنقذ أمة
“إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه…”
ليست نصيحة… بل منهج إنقاذ.
حديث لو طُبق، لقلَّت الخصومات، وارتفع مستوى الأمان، وانخفضت معدلات الطلاق.
فالدين لا يعني الصلاة فقط، بل يُعني أن هذا الشاب يخاف الله حين يغيب الرقيب.
والخلق لا يعني التهذيب في الكلام فقط، بل أن يصبر حين يضيق الرزق، ويحلم حين تثور الزوجة، ويصفح حين يخطئ الطرف الآخر.
وفي الختام : صحوة قبل أن يُجهز السقوط على ما تبقى
لسنا أمام أزمة زواج، بل أزمة معيار.
لسنا أمام تمرد على السلطة الأبوية، بل تمرد على الفطرة نفسها.
نحتاج إلى أبٍ يُعيد للولاية هيبتها، وإلى بنت تعرف أن حريتها لا تكتمل إلا بثقة وليّها.
نحتاج إلى شباب لا يخافون من الزواج بل يستبشرون به.
نحتاج إلى إعلام يشرح الزواج كما هو، لا كما تحب خوارزميات “الريلز” أن تراه.
نحتاج أن نقول للأمة:
عودوا إلى حديث نبيكم… ففيه صلاح دنياكم وآخرتكم.