كان العالم واقفًا على قدميه… لا يُلقي بالًا لما تحته. طوفان من الأعراف الاجتماعية، طقوسٌ تحوّلت إلى أوثانٍ تُعبد باسم العادة، وأثقال تُحمَل على الظهر لا تُسأل: هل هي ضرورية؟
أم أنَّا فقط اعتدنا عليها؟
ثم جاءت الجائحة…
بلا استئذان، بلا تمهيد، بلا ديباجات.
كأنها قبضة من الغيب تضغط على زرّ الإيقاف، فتتجمد عجلة الحياة، ونُسحب جميعًا إلى الوراء لنُشاهد المشهد من بُعد.
من تلك المسافة الجديدة، بدأت تتضح الأشياء…
لم تكن الأعراس تحتاج كل هذا البذخ،
ولم يكن العزاء يحتاج خيمة وطاولات وشايًا لا ينتهي،
ولم تكن الاجتماعات العائلية تستحق أن تُثقل المريض والفقير،
ولم يكن “الواجب” واجبًا، بل عادةً لبست ثوب الفضيلة كذبًا.
كانت كورونا وباءً…
لكنها كانت أيضًا ناصحًا خفيًا. علّمتنا دون أن تُلقي خطبًا، وعظتنا دون صوت.
فهمنا كيف يمكننا أن نحيا بـ”أقل”، وأن “الواجب” ليس فرضًا إن كان فوق طاقة الإنسان، وأن القرب ليس بالمجالس، بل بالمودة، وأن الجسد إن عُزل، لا يعني أن الروح غابت.
لكن، ويا للأسى…
ما إن زال الوباء، حتى زالت الحكمة.
كأن الجائحة لم تمرّ إلا كحلم خفيف، صحونا منه وعدنا نرتب الأسرة ونلبس الطقوس، ونمضي…
نسينا ما كنا قد أبصرناه، نسينا أن في العزلة بصائر، وأن في التخفّف راحة، وأن في البساطة عزّة، وأن “ربّ ضارةٍ نافعة”، ليست جملة تُقال، بل حياةٌ تُعاد بناؤها.
لم نخرج من كورونا كما دخلناها،
لكن لم نحمل منها ما يستحق أن يُحمل.
عدنا للمبالغة في الفرح حتى يُرهق، وعدنا للغلو في الحزن حتى يُثقل، وعادت المجاملات تُلبس أقنعة الإيمان، وعاد “ما يقال عن الناس” يعلو على ما يحتاجه الإنسان.
فهل ننتظر جائحةً جديدة كي نعيد التفكير؟
هل لا بدّ من مصيبة حتى نقول: لقد آن الأوان أن نُراجع أنفسنا؟
أم أن العاقل هو من يجعل من كل تجربة بوابة، لا فقط جرحًا يلتئم؟
إن الوقاية التي علمتنا إياها الجائحة، ليست فقط من العدوى…
بل من العادة إن تحولت إلى سجن.
ومن الكلفة إن تحوّلت إلى عبء.
ومن الطقس إن تحوّل إلى طاغية.
العقلاء وحدهم من يفهمون أن البلايا ليست كلها نقمة، وأن الفائدة لا تُقاس بعدد الموتى بل بعدد الصحوات.
فليكن ما مضى درسًا لا يُنسى، ولنُعد حساباتنا بصمتٍ، قبل أن يأتينا صمتٌ آخر لا يسمح بمراجعة.