تبدو مباحثات التوأمة التي جرت مؤخراً بين محافظة إربد الأردنية ومحافظة درعا السورية خطوة ناضجة في سياق تعزيز التعاون الإقليمي على المستوى المحلي، وهي تعبّر عن تحوّل ملموس في التفكير التنموي العابر للحدود. هذه المبادرة، بما تحمله من طابع تنسيقي بين إدارتين محليتين، تتجاوز البعد البروتوكولي لتلامس إمكانات واقعية للتكامل التنموي، خصوصًا في ظل الاحتياج المتبادل لتعزيز البنية الاقتصادية وتوسيع آفاق التنمية المستدامة في المناطق الحدودية.
ما يميز هذه المباحثات أنها تنطلق من خصوصية جغرافية وإنسانية عميقة؛ فإربد ودرعا، باعتبارهما نقطتي تماس سكاني وتجاري وتاريخي، تمتلكان رصيدًا كبيرًا من القرب الاجتماعي والثقافي، الأمر الذي يمنح أي تعاون بينهما أرضية جاهزة للانطلاق. إن النظر إلى التوأمة من زاوية اقتصادية بحتة يختزل أبعادها الحقيقية؛ فالتنمية هنا لا تأتي كاستجابة لحاجة محلية فقط، بل كمبادرة واعية لإعادة تشكيل العلاقات التنموية بين المجتمعات المتجاورة، بطرق مرنة وشراكات بنّاءة.
فرص الاستثمار التي قد تنبثق عن هذه التوأمة كثيرة ومهمة. إذ يمكن التفكير في مشاريع اقتصادية تكميلية تنطلق من الفجوات التنموية القائمة على جانبي الحدود، مثل إنشاء مناطق لوجستية مشتركة، وأسواق حدودية منظمة، يمكن أن تحفّز الحركة التجارية وتخلق فرص عمل محلية مستدامة. إضافة إلى ذلك، فإن قطاعات مثل الزراعة، والصناعات الخفيفة، والتجارة البينية تمتلك قدرة كبيرة على النمو إذا ما تم توفير البنية التحتية والتنظيم الإداري المناسب.
أما على صعيد المشاريع المستقبلية المقترحة، فإن دراسة إنشاء جامعة جديدة في المنطقة تمثل فكرة استراتيجية بامتياز. ليست الجامعة مجرد منشأة أكاديمية، بل يمكن أن تتحول إلى مركز إشعاع علمي وثقافي، يجمع الشباب من الجانبين ضمن بيئة تعليمية حديثة، ويعزز من إنتاج المعرفة والبحث التطبيقي في مجالات يحتاجها السوق المحلي، مثل الزراعة الذكية، والطاقة المتجددة، وإدارة الموارد الطبيعية.
كذلك فإن إنشاء مركز مالي وتجاري مشترك هو تصور طموح، لكنه يستحق التأمل الجاد. هذا المركز قد يشكل نواة لمنطقة اقتصادية خاصة، تتمتع بإطار تنظيمي مرن، وتستقطب الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، وتعمل على تبسيط إجراءات التبادل التجاري، بما يعزز من التكامل الاقتصادي ويزيد من جاذبية المنطقة للمستثمرين المحليين والدوليين. ومن شأن ذلك أن يحوّل منطقة الحدود إلى نقطة جذب لا إلى نقطة عبور فقط، ويفتح الباب أمام تجارب تنموية فريدة على مستوى المنطقة.
هذه المبادرة، إذن، يمكن قراءتها كتجسيد عملي لفكرة أن التنمية لا تبدأ دائمًا من المركز، بل كثيرًا ما تُصاغ في أطراف الجغرافيا، حين تمتلك الأطراف الرؤية والإرادة. إن التوأمة بين إربد ودرعا، إذا ما استُثمرت ضمن أطر مؤسسية واضحة واستراتيجيات مدروسة، قد تصبح نموذجًا يحتذى به في المنطقة، وتفتح الباب لتجارب مشابهة بين مدن ومحافظات أخرى، تؤمن بأن التنمية المستدامة تبدأ بالتعاون، وتنمو بالحوار، وتزدهر حين تُبنى على أرضية المصالح المشتركة.