في زحام الحياة، حين تختلط فينا المشاعر مع الحاجات، يخرج القرار لا بوصفه اختيارًا واعيًا، بل كصرخةِ روحٍ تُريد أن تنجو.
يقولون: “لا تذهب إلى البقالة وأنت جائع، حتمًا ستأخذ الأشياء الغلط.”
يضحك الناس لهذه النصيحة، لكنها في حقيقتها مرآة دقيقة لحالنا مع قرارات الحياة.
نُقرّر أحيانًا ونحن في قمة الجوع… لا جوع البطون، بل جوع القبول، والحنان، والنجاح، والخلاص من وجعٍ لا يُرى.
فنرتبط بمن لا يليق، ونشتري ما لا نحتاج، ونتكلم بما لا نعني… فقط لأن قراراتنا تشبه جوعنا، لا حقيقتنا.
هكذا نُبرم صفقات مع الحياة لا تُشبهنا، ونُجبر أنفسنا على اختيارات لا نُحبها…
كل ذلك لأننا لم نكن في لحظة وعي، بل في لحظة حاجة
وليس الجوع دومًا إلى الطعام…بل هناك جوعٌ آخر، أكثر وجعًا، وأشدّ خطرًا:
جوعٌ إلى قبسةِ حب، أو غُصَّةِ نجاح، أو ملجأٍ من وقع الألم.
جوعٌ يُشبه غابةً مظلمة، تضلّ فيها قراراتنا، وتفترسنا فيها الرغبات المقنّعة.
ومن رحمة الله بهذا الإنسان، أن الإسلام لم يتركه وحيدًا في لحظة الاضطراب، بل أنار له الطريق قبل أن تضيّعه حاجاته الداخلية أو تقلباته النفسية.
فجاء الهدي النبوي سابقًا لكل المدارس النفسية التي تتحدث اليوم عن “الإدراك العاطفي” و”حالة القرار”.
قال رسول الله ﷺ:
“لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان.”– رواه البخاري ومسلم –
وفي رواية أخرى:
“ولا وهو حاقن، ولا وهو حاقب، ولا وهو جائع، ولا وهو عارٍ، ولا وهو مشغول القلب.”
كأنّ النبي ﷺ يُمسك بقلوبنا قبل أن تخطئ،
ويقول بلغة الرحمة:
“توقّف… لا تقرّر وأنت مضطرب، لا تحكم وقلبك في معركةٍ لا تهدأ.”
فهذه ليست مجرّد توصية إدارية، بل منهاج حياة.
فالقاضي في الحديث، ليس فقط صاحب سلطة أو حُكم، بل كل إنسان طُلب منه رأي، أو وقف أمام مفترق قرار، أو سُئل سؤالًا يُغيّر مصير أحدهم.
فلا تحكم وأنت جائع، ولا تُفتي وأنت غاضب، ولا توقّع وأنت مُشتت… فكل قرارٍ يصدر من نفسٍ مضطربة،
لا يُباركه العقل، ولا يُزكّيه القلب
حين يغضب العقل… يُطفئ القلب
الغضب ليس فقط انفعالًا لحظيًا…
إنه طوفانٌ يكتسح حصون الحكمة، ويُغلق أبواب التعقّل.
وفي لحظةٍ واحدة، يصبح القرار سيفًا لا ميزانًا، ويصبح القول لعنةً لا نصيحة.
ولذلك كان النبي ﷺ يؤخّر الحكم، ويسكت إذا غضب، ويُصلي إذا احترق قلبه، حتى تهدأ نفسه وتعود إلى مقام الرشد.
وهذا هو الفرق بين من يتكلم تحت سلطان المزاج، ومن يتكلم بعد استئذان العقل والقلب معًا.
من مشكاة القرآن والسيرة
قال تعالى:
“وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ”[آل عمران: 159]
شاور، ثم اعزم، ثم توكّل…
تلك ثلاثية السماء، وهكذا تُبنى القرارات في الإسلام:
لا تبدأ بالعجلة، بل بالحكمة…
ولا تنتهي بالاضطراب، بل بالسكينة
ومن السيرة، حين اختلف خالد بن الوليد مع بعض الصحابة، لم يُعجّل النبي ﷺ بالحكم، بل أجّل الفصل حتى تصفو القلوب وتتضح الصورة.
فلم يكن العدل في قراره فقط، بل في توقيته أيضًا.
قرارات الجوع… وأبناء الندم
كثيرٌ من الندم الذي يحفر أخاديدَ في وجوهنا،
لم يكُن لأننا أشرارٌ… بل لأننا كنا جائعين.
جوعٌ إلى حنانٍ يُطفئ وحشةَ الروح،
أو فرصةٍ تُمسح بها جراحَ اليأس،
أو عدالةٍ تُصلح اعوجاجَ الظلم.
لكن الجوع يُعمي البصيرة،
والغضب يُعطّل الضمير.
وكل قرارٍ يُولد من رحم هذا الجوع،
سيكون طفلًا مشوّهًا يُطارِدك طَوالَ حياتك.
فالكلمة التي تخرج من قلبٍ ناقص… تصير سجّانًا، والحكم الذي يُقال في لحظة غضب… يتحول إلى دَيْنٍ ثقيل على كاهلك.
يا صديقي… تَمَهَّل
• لا تدخل مملكة العلاقة، ومفتاحك خوفٌ من الوحشة.
• لا توقّع قرارًا على ورقٍ مكتوبٍ بحبرِ القلق.
• لا تقطع وعدًا وأنت في حضرة العُزلة،
• ولا تُطلق سراح أحد، وأنت في زنزانة الغضب.
وقفةٌ متأخرة… خيرٌ من قرارٍ متسرّع.
فتأجيل القرار ليس ضعفًا، بل قوةٌ تعرف متى تصمت، وتنتظر حتى يعود القلب إلى طمأنينته.
وأجمل القرارات…
تلك التي تُتخذ بعد سجدةٍ هادئة، لا بعد دمعةٍ أو صرخة غاضبة.
فاقترب من الله ساعة القرار، تكن أقرب إلى الصواب.
واذكر دائمًا:
كل ما يُقال في لحظة نقص… يُصبح خصمًا في رصيدك، وسهمًا قد لا تعود تملك سحبه
بين النور والظلّ… تُصاغ المصائر
فإذا أردت أن تحتكم إلى نور النبوة، لا إلى نزق اللحظة، فاعلم أن ميزان القرار في الإسلام لا يُقاس فقط بالنتيجة،
بل بالحالة التي وُلِد فيها:
هل اتُّخذ وأنت ثابت الجَنان؟
أم خرج من قلبٍ جائع، أو صدرٍ غاضب؟
فالنبي ﷺ لم يُعلّمنا فقط ماذا نقول،
بل متى نقول، وكيف نشعر ونحن نقول.
علّمنا أن التأجيل في زمن الانفعال عبادة، وأن الصمت في لحظة الاضطراب حكمة، وأن التروّي باب تُفتح منه أبواب التوكل.
فلك أن تتخيّل الفرق بين قرارٍ يولد بعد سجدةٍ خاشعة، وبين قرارٍ يولد في لحظة غليان…
فالأول نورٌ يهديك،
والثاني ظلٌّ يتبعك.
وما بين النور والظلّ…
تُحسم أعمار، وتُبنى مصائر،
ويُكتب تاريخُ قلوبنا… لا كما أردنا،
بل كما قرّرنا ونحن في لحظةِ نقص.