حين أعلنت دمشق قرار سحب قواتها العسكرية من محافظة السويداء، سارع البعض إلى اعتباره تراجعًا عن السيادة، بل ورآه البعض الآخر نوعًا من الضعف. لكن من ينظر للأمر بعين استراتيجية، يدرك أن ما حدث لم يكن انسحابًا بقدر ما كان خطوة ذكية وقائية، أفشلت مخططًا كان يُحضّر في الخفاء لتحويل السويداء إلى منصة تدويل جديدة.
هذا القرار، وإن بدا مفاجئًا للبعض، جاء بمثابة ضربة استباقية من الدولة السورية، قطعت الطريق أمام من كان يراهن على انفجار الجنوب وتحويله إلى ورقة ضغط دولية. فالأمر لا يختلف كثيرًا - من حيث الجوهر - عن المشهد التاريخي المؤلم الذي عاشه العراق حين رفض الانسحاب من الكويت، فانفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الخارجي واستنزاف الدولة لعقود. لكن سوريا، وقد تعلمت من التجربة، اختارت ألا تقع في الفخ ذاته، خاصة حين تكون القضية مغلّفة بشعارات "حماية الأقليات" و"الحقوق الطائفية"، التي كثيرًا ما استُخدمت لتفكيك الدول من الداخل.
قرار الانسحاب لم يكن هروبًا، بل مناورة سياسية ذكية أدارها الرئيس أحمد الشرع بهدوء. فقد أدركت دمشق أن أكبر خطر اليوم لا يأتي من الجيوش التقليدية، بل من الحروب الناعمة التي تُغذّي الانقسام وتُشعل الفتن تحت عباءة المطالب المحلية. وهكذا، فضّلت الدولة أن تسحب فتيل الأزمة من الداخل قبل أن يُشعل الخارج الحريق.
وفي هذا السياق، عادت إلى الأذهان صورة القائد الوطني الكبير سلطان باشا الأطرش، الذي لم يكن زعيم طائفة، بل قائد وطن. رجل وحّد تحت رايته المسلمين والمسيحيين والدروز في وجه الاحتلال، وقال كلمته الخالدة: "الدين لله والوطن للجميع". فيا ليت من يدّعون اليوم تمثيل الطائفة، يستحضرون روح سلطان باشا بدلًا من الزجّ بالمدينة في أتون الفوضى والمجهول.
وفي الجهة المقابلة، نرى الكيان الإسرائيلي يغلي على صفيح ساخن من الانقسامات، تحديدًا بين الدروز والبدو داخل فلسطين المحتلة. هؤلاء يمارسون ضغوطًا حقيقية على نتنياهو، ويدفعونه لمواقف متناقضة في تعامله مع ملف السويداء. فالزعيم المأزوم في الداخل، لا يستطيع أن يتصرف بحرية في الخارج. وعليه، فهو يتخبّط بين موازنة مطالبه الداخلية، ومواصلة أجنداته التوسعية في المنطقة.
هذا الارتباك داخل الكيان الصهيوني يُضعف قدرته على استثمار ما يجري في الجنوب السوري، ويمنح دمشق هامش مناورة أوسع، لتدير ملف السويداء بعقلانية وهدوء، بعيدًا عن طبول الحرب ومسرحيات التدخل الإنساني المزيّف.
باختصار، انسحاب الجيش السوري من السويداء لم يكن نهاية المعركة، بل بداية مرحلة جديدة من إدارة الصراع، عنوانها: "لن نمنح أحدًا فرصة العبث بوحدتنا الوطنية".
وفي النهاية، وسط كل هذا الضجيج الإقليمي والدولي، يبقى الكيان الصهيوني هو المستفيد الأكبر من الفوضى، كما كان دائمًا، بينما يدفع المواطن السوري والعربي الثمن من أمنه ولقمته واستقراره.