أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية الموقف شهادة مناسبات مستثمرون جاهات واعراس جامعات مغاربيات خليجيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

التل يكتب: من أجل سوريا الغد.. دولة جديدة بعقد إجتماعي جديد


المحامي محمد مروان التل

التل يكتب: من أجل سوريا الغد.. دولة جديدة بعقد إجتماعي جديد

مدار الساعة ـ

في ظل ما شهدته سوريا خلال العقود الماضية من صراعات سياسية واضطرابات اجتماعية وتدخلات خارجية، بات من الملحّ اليوم أن يعاد النظر في البنية الثقافية التي تشكّل وعي الأفراد وتوجّه سلوكهم في الحياة العامة،إن الحاجة إلى بناء ثقافة سورية جديدة، تقوم على التسامح وقبول الآخر و التعايش السلمي المشترك ونبذ العنف، لم تعد ترفاً فكرياً، بل شرطاً أساسياً لأي عملية تعافٍ وطني مستدام.
لقد أسهمت الظروف الجيوسياسية التي مرّت بها سوريا — من أنظمة قمعية، وصراعات طائفية، واستقطابات خارجيه— في إنتاج جيل مثقل بثقافة الإقصاء، غير قادر على تقبّل الرأي المخالف، ومعتاد على نمط عدواني في التعامل مع الاختلافات،هذه الظاهرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن تربية مؤدلجة في المدارس، وإعلام تعبوي يكرّس ثنائية (ال مع أو الضد)، و أنظمة سياسيه حكمت البلاد بعقلية أمنية لا تسمح بالتعددية أو النقاش الحر.
وما زاد الطين بلّة أن مشاهد العنف والرفض والإقصاء لم تنتهِ بسقوط النظام المركزي، بل بدأت ملامحها تتجلى بين مختلف التيارات السياسية والفكرية التي تصدرت المشهد في مرحلة ما بعد 2011،حيث مارست أطراف متعددة — معارضة مسلحة كانت او مدنية — أشكالًا من الإقصاء والاعتداء الجسدي واللفظي على من يخالفها الرأي، في تكرار مقلق لنمط الاستبداد نفسه، ولكن بأقنعة مختلفة.
من هنا، تبرز ضرورة إقرار قانون واضح وصارم يُجرّم كل أشكال الاعتداء البدني أو اللفظي على الآخر بسبب الرأي أو الانتماء أو التوجه السياسي أو المعتقد، مع التنويه إلى إن غياب مثل هذا القانون يُبقي المجتمع رهينة شريعة الغاب، ويكرّس منطق القوة بدلًا من منطق العدالة، ويُفشل أي محاولة لبناء بيئة حوارية سليمة.
إن قبول الآخر والتسامح ونبذ العنف و انصهار كافة المكونات ببوتقة الدولة الوطنية لا يقتصر أثره على المستوى الفردي أو الأخلاقي فحسب، بل يُشكّل حالة مناعة وطنية،فحين يشعر كل مكوّن — دينيًا كان أو عرقيًا أو سياسيًا — بالأمان والكرامة والمواطنة المتساوية، ينتفي الدافع لأي فئة للاستقواء بالخارج أو الاستنجاد بقوى أجنبية تحت ذريعة الحماية،وهكذا يصبح السلم الأهلي محميًا بالثقافة، لا فقط بالسلاح، وتُغلق الأبواب أمام مشاريع التفتيت التي طالما تغذّت على الشعور بالاضطهاد والتهميش وغياب العدالة الاجتماعية.
كما أن استمرار عقلية الإقصاء والتعدي على الآخر في دولة متعددة المكونات كـسوريا، هو بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار عند أول اختلاف أو احتكاك بين تلك المكونات، ما يُهدد وحدة البلاد وسلامها المجتمعي، ويفتح الباب واسعًا أمام تدخلات خارجية تنصّب نفسها كـ”ضامنة” أو “حامية” لهذا الطرف أو ذاك.
لقد شكلت تجربة جنوب أفريقيا نموذجًا يُحتذى به عندما خرجت من حقبة الفصل العنصري المظلمة، و كانت البلاد على حافة حرب أهلية طاحنة كانت أتونها قد اشتعلت ،لكن قادة الدولة — وفي مقدمتهم نيلسون مانديلا — اختاروا طريق التسامح والمصالحة الوطنية، بدلاً من الانتقام أو الإقصاء ، حينها أُنشئت “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي فتحت المجال لاعترافات علنية من مرتكبي الجرائم، مقابل العفو والمسامحة، بهدف تجاوز الماضي نحو بناء مستقبل مشترك ،هذه التجربة أثبتت أن التسامح ليس ضعفًا، بل قوة استراتيجية لحماية الوطن من التفكك، وهو الدرس الذي تحتاجه سوريا اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إن الطريق نحو بناء ثقافة سورية جديدة يجب أن يقوم على:
• الاعتراف بالتنوع: فالمجتمع السوري ليس كتلة واحدة، بل هو فسيفساء من الطوائف والأعراق والانتماءات الفكرية،هذا التنوع إذا ما أُدير بروح وطنية، يمكن أن يكون مصدر غنى، لا تهديد.
٠صياغة عقد إجتماعي جديد، يصوغ علاقة متكافأة بين مختلف فئآت الشعب السوري والدولة ويضمن ويحقق الشورى و العدالة اللتان تعدان الركيزة الأساسية لبناء دولة مدنية حديثة.
• التربية على الحوار: يجب أن تُدرج في مناهج التعليم قيم الإنصات، واحترام الرأي الآخر، والنقاش البناء، بدلاً من التلقين والتعصب.
• تحرير الإعلام: حتى يلعب دوره في بناء الوعي لا في تأجيج الكراهية أو التحشيد السياسي، فلا إصلاح بلا إعلام حر ومهني.
• دعم الفنون والمبادرات الشبابية: إذ تمتلك القوة الناعمة دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل الذهنية العامة، وتقديم بدائل سلمية للتعبير عن الرأي.
فالأوطان لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالفكر والسلوك والمنظومة القيمية التي تحكم علاقة المواطن بذاته وبالآخر و بالدوله،ولا بد أن تكون سيادة القانون هي المرجعية الحقيقية التي تضمن الحقوق وتحمي التنوع، وتقطع الطريق على مشاريع الإقصاء والهيمنة،وحتى يتم الوصول إلى هذا الحلم، لا بد من البدء من الآن، وأن يُدْرَك أن ما فُقد عبر سنوات يمكن أن يُستعاد بإرادة جماعية، وعبر مشروع ثقافي طويل النفس، يضع الإنسان السوري — كل إنسان — في صميم أولوياته.
مدار الساعة ـ
story