في خطاب العرش السادس والعشرين، استخدم الملك محمد السادس عبارة لافتة: "المغرب الصاعد" وهي ليست مجرد عبارة عادية، بل تحمل دلالة سياسية واضحة على التوجه الاستراتيجي للمملكة، الذي يقوم على تعزيز موقع المغرب إقليميًا ودوليًا عبر مشاريع مهيكلة، وشراكات وازنة ومتجددة، تعبّر عن إرادة ملكية في ترسيخ السيادة وبناء موقع متقدم على الساحة الدولية والإقليمية.
أكد الملك أن المغرب مقبل على مشاريع وتحولات جديدة، وأن ما تحقق حتى الآن لم يكن صدفة، بل نتيجة تخطيط طويل المدى وتنفيذ مدروس. هذه الرسائل، في تقديري، تعبّر عن دولة تسير بخطى ثابتة نحو موقع متقدم بين الدول، دولة تعرف ما تريد وتسير وفق رؤية واضحة.
رغم تنوع المحاور التي تناولها الخطاب الملكي، من قضايا وطنية وتنموية إلى رهانات إقليمية ودولية، فقد ظل ملف الصحراء المغربية في صلب الخطاب، باعتباره أولوية استراتيجية ومحددًا رئيسيًا في توجهات السياسة الخارجية للمملكة. حيث قدّم الملك هذا الملف كعنوان لنجاحات دبلوماسية متراكمة، وكجزء أساسي من مشروع وطني متكامل، مشيرًا إلى اتساع دائرة الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي من دول مؤثرة مثل المملكة المتحدة والبرتغال، وهو ما يدل على أن الطرح المغربي أصبح يحظى بقبول دولي واسع.
جاء الخطاب الملكي في لحظة تزامنت مع زيارة مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الإفريقية، وتصريحاته بأن “الصحراء ملف مهم جدًا عمره 50 سنة” أعادت التأكيد على إعلان ترامب عام 2020 بسيادة المغرب على الصحراء مع إبقاء الباب مفتوحًا للحوار. يبدو خطاب العرش الأخير كأنه يواصل البناء على هذه اللحظة السياسية. فبين التأكيد الملكي على أن المغرب يلاقي دعمًا دوليًا متسارعًا في ملف الصحراء، وتشديد بولس على ضرورة حل نهائي يراعي واقع اللاجئين، يظهر التقاطع بوضوح، بدعوة الملك إلى "حوار صريح وأخوي" مع الجزائر حيث تنبع اليد الممدودة من موقع قوة، لا من موقع تنازل، وهي ليست المرة الأولى، بل امتداد لمبادرات سابقة تؤكد ثبات الموقف المغربي ورغبته الصادقة في تجاوز الجمود.فالمغرب، وهو يراكم الدعم لقضيته الوطنية، لا يزال يراهن على منطق الحوار لحل الملفات العالقة، سواء إقليميًا أو ثنائيًا، بما يعكس وضوح الرؤية واتساق الموقف السياسي.
في رأيي، هذه الدعوة ليست فقط موجهة للجزائر، بل أيضًا للمجتمع الدولي، لتؤكد أن المغرب لا يبحث عن نزاعات، بل عن علاقات مستقرة تقوم على الحوار والاحترام والمصالح المشتركة.
وفي توجه يعكس وعيًا بأهمية تجاوز الخلافات السياسية التي عطّلت الاستثمار الإقليمي لعقود، شدّد الملك محمد السادس في خطابه على ضرورة تفعيل الاتحاد المغاربي، معتبرًا أن التقارب بين المغرب والجزائر هو مفتاح استعادة دوره الإقليمي والدولي. الدعوة تنطوي على رغبة مغربية نحو التنمية الاقتصادية والأمن المشترك، في ظل تحولات جيوسياسية متسارعة في المنطقة والعالم.
هذا الموقف يعكس رغبة المغرب في إعادة ترتيب أولويات التعاون الإقليمي بعيدًا عن النزاعات، ما يحمل دعوة ضمنية لتجاوز القطيعة التي أثّرت سلبًا على استقرار المنطقة، ويعيد طرح فكرة الوحدة المغاربية كخيار استراتيجي ضروري لمواجهة تحديات مشتركة كالفقر، والهجرة، والتطرف، والتنافس الدولي الملحوظ مؤخرا.
مع ذلك، يبقى تفعيل الاتحاد المغاربي رهينًا بمدى تجاوب الجزائر، وهو ما يتطلب إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف لتجاوز العقبات الراهنة. لذلك، فإن خطاب الملك يحمل رسالة واضحة للتقارب والحوار، لكنه في الوقت ذاته يضع مسؤولية كبيرة على عاتق الشريك الجزائري، وهو اختبار حقيقي لجدية النوايا في المنطقة.
عبارة "المغرب الصاعد" في الخطاب الملكي لم تكن شعارًا بل تجسيدًا لمسار تنموي واضح، تعكسه المشاريع الكبرى في الأقاليم الجنوبية، من ميناء الداخلة الأطلسي إلى مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجيري، ومبادرة ولوج دول الساحل، وغيرها من المشاريع تعبّر عن واقع اقتصادي وتنموي ملموس، إلى جانب نهضة صناعية وطنية وبنية تحتية متطورة كقطار فائق السرعة ومشاريع الطاقة المتجددة. هذه الإنجازات تعكس رؤية استراتيجية تبني اقتصادًا متنوعًا ومستدامًا، رغم الأزمات العالمية.
وفي هذا الإطار، شدّد الملك على أن الخلافات السياسية، خاصة في الفضاء المغاربي، عطّلت فرصًا حقيقية للاستثمار والتكامل، ما يجعل من دعوته إلى الحوار وتجاوز القطيعة نداءً لإعادة توجيه بوصلة الإقليم، إدراكًا منه أن استقرار المنطقة ونهوضها يمران عبر الحوار لا القطيعة، والتنمية لا الصراعات.
برأيي، يشكّل خطاب العرش لسنة 2025 وثيقة سياسية بالغة الدلالة، ليس فقط لأنه يجسد طموح "المغرب الصاعد"، بل لأنه يبعث برسائل طمأنة في اتجاهين: داخليًا، يُطمئن المواطن المغربي بأن المستقبل يُبنى على أسس التنمية، والعدالة الاجتماعية، وتعزيز السيادة؛ وخارجيًا، يوجّه خطابًا متزنًا إلى الجوار المغاربي والعالم، مفاده أن
المغرب يختار الاستقرار والتعاون، ويؤمن بأن الحوار والاستثمار والشراكات على قاعدة الربح المتبادل هي الطريق الأمثل لبناء مستقبل مستدام للجميع.