أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب تبليغات قضائية مقالات مختارة مقالات أسرار ومجالس مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة جامعات دين مغاربيات خليجيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

غازي عربيات 'الراعي' الذي خدع الاحتلال.. وحرّك مدافع الكرامة!

مدار الساعة,مناسبات أردنية,الضفة الغربية
مدار الساعة ـ
حجم الخط
مدار الساعة - كتب محمد العرسان -
كنت أشاهد فيلماً وثائقياً عن معركة الكرامة الخالدة...تلك اللحظة التي أعادت للأردن والأمة العربية شيئًا من كبريائها بعد نكسة حزيران 1967. توقف الوثائقي عند مشهدٍ استثنائي صورة رجلٍ بزيّ راعٍ بسيط، يسوق قطيعًا من الأغنام على مشارف الغور.
في البداية، بدا لي مشهدًا عابرًا، حتى انقلبت الصورة: هذا الراعي لم يكن سوى بطل من أبطال المعركة المرحوم اللواء الركن غازي عربيات، ضابط الاستخبارات الأردني الذي قاد النصر بصمت، من خلف خطوط العدو!
في أعقاب هزيمة حزيران 1967، لم يكن أمام الأردن إلا خيار واحد: الصمود. فبدأت القيادة تفكّر بعمق، خارج صندوق المعارك الكلاسيكية. وهنا ظهر اسم غازي عربيات، الضابط الذي كان يحمل فكرًا مختلفًا… لا المواجهة المباشرة، بل الاختراق الذكي. لبس عباءة الراعي، تنكر ببراعة، وساق قطيعًا من الأغنام، ليس فقط ليخدع العدو، بل ليصنع تاريخًا.
بين التلال، كان غازي يعبر النهر خلسة، يلتقي برجال الضفة الغربية، ينقل السلاح، ويؤسس نواة مقاومة شعبية تهدف لإشغال الاحتلال في عمقه. ومع كل جولة له، كان يعود بمعلومة، بخريطة، بتقدير دقيق لحشود العدو، لتحركات دباباته، ولخطط قادته.
كان ضابط الاستخبارات الأردني غازي عربيات رحمه الله، القائد الخفي لمعركة الكرامة، الرجل الوطني المخلص الغيور الذي عمل بعد هزيمة حزيران مع الشهيد وصفي على تنفيذ مشروع الجبهة الرابعة الذي يقوم على إنشاء ميليشيا شعبية داخل الضفة الغربية هدفها إشغال العدو وإدامة الحرب معه ونقلها خلف خطوط التماس.
ولهذه الغاية اشترت الاستخبارات العسكرية ما مجموعه (35) رأس من الماشية، كان غازي يرتدي زي راعي اغنام ويختار نقطة خفية على الشريعة أو بعدها للعبور داخل الحدود ويلتقي بوجهاء الضفة الغربية لتأسيس ميليشيات المقاومة وتأمين طرق نقل السلاح لها، لم تشك قوات الإحتلال الإسرائيلي به، ولم تستطع أن تصطاده كونه كان يجيد التمويه وفنون العمل الاستخباري، استطاع رصد حشودات قوات العدو قبل المعركة وحدد أماكن الهجوم وحجم الآليات وأعداد القوات المقاتلة بدقة، ولحظة عبوره مع أغنامه النهر أرسل برقيته المفصلية الى قائد الجيش بكافة التفاصيل مما ساهم في الاستعداد للمعركة.
تسلّم قادة الجيش الأردني برقية عاجلة من غازي عربيات. لم تكن مجرّد تنبؤ أو تحليل، بل خطة هجومية مفصلة: متى سيبدأ الاحتلال، من أين سيدخل، حجم القوات، أنواع الأسلحة، وحتى التوقيت بالدقيقة. وفي فجر الخميس 21 آذار، لم يكن النشامى نائمين، بل كانوا في مواقعهم، جاهزين.
عندما عبرت القوات الإسرائيلية النهر، كانت مدافع الكتيبة السادسة في عيرا ويرقا تسبقهم بالنيران، وتنهال حممها على آلياتهم. دارت رحى المعركة، والعدو يترنح، يرتبك، يسقط. ولم تُفتح "مأدبة الغداء في السلط" التي وعد بها رئيس وزراء الاحتلال صحفييه. فقد كان رجال الجيش الأردني هناك، ومعهم… راعي الغنم.
بعد المعركة، استمر عطاء الباشا عربيات في مواقع أمنية وعسكرية، وكان آخرها مديرًا للأمن العام. رحل في حادث سير على طريق مطار ماركا، عائدًا من اجتماع أمني للشرطة العربية تاركًا خلفه ارثا عظيما.
واليوم، ونحن نرى ما يحدث في فلسطين من تهجير وعدوان متواصل، ندرك أن دور الأردن في الدفاع عن الأرض لا ينفصل عن تاريخه، ولا عن رجاله الذين حموا الكرامة بصمت. فكما كان غازي عربيات، هناك آلاف الأردنيين ممن آمنوا أن المعركة ليست بالسلاح فقط، بل بالعقل، والإخلاص، والقدرة على التمويه حين يكون الصمت أبلغ من الرصاص.
لا تزال فلسطين في قلب الأردن، لا من باب الشعارات، بل من واقع المواقف، والدماء، والرجال. وكما كان غازي عربيات راعيًا للنصر ذات فجرٍ من آذار، لا يزال الأردن، بقيادته وجيشه وأحراره، يحمل شعلة الدفاع عن فلسطين، بثبات الموقف ونُبل الهدف.

مدار الساعة ـ
story