مدار الساعة - كتبت دعاء الزيود -
إذ تتعدد قراءات اللحظة الأردنية الراهنة، وتتعقّد تفسيرات الواقع الإقليمي المُربك، تظل الدولة الأردنية قادرة – بحكم التجربة – على إنتاج خطاب متماسك، متزن، وغير انفعالي، يعيد ضبط بوصلة الرأي العام كلما اضطربت السياقات أو تشعّبت التأويلات.
ولعلّ اللقاء الملكي الأخير مع نُخبة من الإعلاميين لم يكن خارج هذا السياق، بل جاء – على العكس – في ذروة الحاجة إلى استعادة الثقة، وإعادة تعريف حدود المساحة بين النقد المشروع والتهشيم الممنهج، وبين حرية التعبير والانفلات الخطابي.
فحين يلتقي رأس الدولة بصُنّاع الكلمة، يكون الأمر عبارة تذكير بهُوية الدولة العاقلة في زمن الفوضى، ورسالة سياسية مركّبة تُكتب بلغة السيادة لا بلغة الحسابات الضيّقة.
ومن هنا، يُقرأ اللقاء بوصفه محطة فاصلة في إدارة التوازن بين الدولة والشارع، بين السلطة والمجتمع، بين الرواية الوطنية وحالات التشويش التي تتغذى – أحيانًا – من صمت الدولة أو تردّدها في توضيح مواقفها.
حين يلتقي الملك برجالات الإعلام، لا تكون الجلسة امتدادًا لسلطة عمودية تخاطب الأذرع التنفيذية، بل هي التقاء أفقي بين رأس الدولة وعقلها الناقد، بين من يملك القرار ومن يمتلك التأثير على الرأي العام، بين الحُكم والرؤية.
هذا اللقاء الأخير في قصر الحسينية، كان بمثابة اعتراف بدور الصحافة الوطنية في تشكيل الوعي الجمعي، وتعزيز ثقة الناس بمؤسساتهم، ورفع منسوب الانتماء في زمن تزداد فيه الشكوك وتتآكل فيه الثقة.
في كل مرة يصغي الملك للإعلاميين، يضع بذلك حدًا فاصلاً بين مفهوم الدولة ومفهوم الحكومة. فالدولة هي الكيان الأوسع، الراسخ، المتجذر، الذي لا يرتبط بعمر حكومة أو أداء وزير. والدولة بحاجة إلى رواية تُكتب بعين نقدية مسؤولة، لا بروح التشكيك ولا بمنطق التضليل.
من يُتابع ما قاله جلالة الملك يدرك أن الإعلام لم يعُد فقط مرآة للمجتمع، بل أصبح صانعًا لوعيه، مسؤولًا عن ترميم الفجوة بين المواطن وصاحب القرار، وبين الشك واليقين، وبين الغضب والتفكير.
نحن، كأردنيين، لم نُدعَ فقط للاستماع، بل للمشاركة. وهذه المشاركة ليست مكافأة، بل تكليف وطني، لا يقلّ أهمية عن دور رجال الدولة أنفسهم.
في زمن الاستقطاب، الإعلام الحر المسؤول هو الحصن الأخير للدولة. لذلك، فكل لقاء ملكي مع الإعلام هو رسالة مزدوجة: إلى الإعلاميين بأنهم شركاء لا أدوات، وإلى الرأي العام بأن الدولة لا تخشى النقد، بل تتغذى عليه لتصويب المسار.
لقد أعاد هذا اللقاء تعريف العلاقة بين الدولة والإعلام، لا كعلاقة سلطة ورقابة، بل كتحالف أخلاقي بين من يُمسك بالبوصلة ومن يرصد الرياح.
وإن كانت الدولة الأردنية تُراكم اليوم أدوات تحديثها السياسي والاقتصادي، فإن الإعلام الوطني مسؤول عن مراكمة وعيٍ موازٍ، يُحسّن جودة المشاركة، ويُصوّب العلاقة بين الناس ومؤسساتهم، ويكتب المستقبل بجُرأة الانتماء وليس بفعل الغضب.
في حضرة الملك، لم يكونوا فقط صحفيين وإعلاميين. كانوا شهودًا على دولة تُخاطب عقلها، وتُقابل مرآتها دون رتوش.