اهتمت وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام بتغطية لقطات لأشخاص في تركيا يلقون زجاجات بلاستيكية مملوءة بالطحين أو العدس في بحر مرمرة على أمل أن تصل لغزة وهذا مستحيل جغرافيا.
تتحول الرمزية أحيانًا إلى مهرب من العجز، وأحيانًا إلى استعراض يخفي التقصير. الفيديوهات التي تُظهر شبانًا يلقون أكياس الطحين في بحر مرمرة، أو رسائل موضوعة في قناني عائمة على سطح الماء، سرعان ما تنتشر وتحظى بتفاعل كبير عبر الإنترنت. لكنها لا تغيّر شيئًا في واقع غزة، حيث يموت الناس من الجوع والمرض تحت الحصار. هذه المشاهد - رغم نواياها الطيبة - تبقى بلا أي تأثير ملموس. بل إنها في بعض الحالات تتحول إلى مادة للسخرية أو التعليق السياسي، في حين تبقى القوافل الحقيقية، التي تتعرض للمنع والتفتيش والنهب، بعيدة عن عدسات الكاميرا.
على النقيض من هذا الضجيج الرمزي، تعمل المملكة الأردنية الهاشمية بصمت وفاعلية. فمنذ إعادة إطلاق عمليات الإغاثة الجوية إلى غزة، نفذ سلاح الجو الملكي الأردني، سبع عمليات إنزال جوي خلال أسبوع واحد.
هذه العمليات أسفرت عن إيصال ما يقارب 57 طنًا من المساعدات، تضمنت موادًا غذائية وأغذية أطفال ومستلزمات طبية، ليصل الإجمالي إلى 148 طنًا خلال فترة قصيرة. كل هذه العمليات نُفذت تحت إشراف القيادة العسكرية الأردنية وبالتنسيق مع وكالات أممية، وهدفها تخفيف المعاناة الإنسانية داخل القطاع.
ورغم كل ما تحمله هذه الإنزالات من مخاطرة وكلفة لوجستية، إلا أنها لا تمثل سوى جزء من الجهد الأردني. الجزء الأكبر والأهم يتم عبر القوافل البرية.
فقد سُيّرت مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية من عمّان عبر المعابر الرسمية نحو غزة، بإشراف الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، وبدعم من القوات المسلحة. هذه القوافل تنقل الغذاء والدواء والماء، وتصل مباشرة إلى المحتاجين. لكنها، للأسف، لا تحظى بتغطية إعلامية موازية، وكأن الفعل الحقيقي لا يثير الكاميرا كما تفعل لقطات البحر.
لا يقتصر التحدي على إيصال المساعدات فقط، بل يشمل العراقيل التي تضعها السلطات الإسرائيلية أمام تدفق المساعدات الإنسانية. تبقى الشاحنات لساعات طويلة بانتظار التفتيش، وسط إجراءات بيروقراطية معقدة. بعض القوافل انتظرت أكثر من 20 ساعة عند نقاط التفتيش، لتجد في النهاية أن السماح لها بالدخول لم يتجاوز عددًا ضئيلًا من الشاحنات.
وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، فإن أقل من 8% فقط من الشاحنات التي تصل إلى معبر رفح أو كرم أبو سالم تُفرغ فعليًا في القطاع، بسبب التعطيل المتعمد أو بسبب الانفلات الأمني خلال التوزيع. ومع ذلك، يواصل الأردن إرسال القوافل، غير آبه بالتجاهل الإعلامي أو بالتحديات اللوجستية. ما يهمه أن تصل المساعدات، ولو عبر طرق ضيقة وخطرة.
كما يُعد الإنزال الجوي خيارًا طارئًا لا يُعوّل عليه دائمًا. إنه مكلف، محفوف بالمخاطر، وغالبًا ما ينتهي بنتائج غير محسوبة. في بعض الحالات، سقطت المساعدات على رؤوس المدنيين وتسببت بإصابات، بسبب الزحام الشديد أثناء محاولات التقاطها. وكما قالت منظمات دولية، فإن الإنزال الجوي لا يغني أبدًا عن قافلة تمر بأمان على الطريق البري.
تخيل أن كيس طحين واحد يسد رمق أسرة ليوم، بينما شاحنة محملة بعشرات الأطنان يمكن أن تغذي أحياء كاملة لأسبوع أو أكثر. لكن المشهد الإعلامي المعكوس يفضّل إبراز من يرمي الكيس في البحر، على من يقود قافلة. يتصدر من يلتقط صورة على الشاطئ العناوين، بينما يُغيّب من يسهر ليلًا لتأمين وسط خطر القصف واعتداءات المستوطنين.
التغطية الإعلامية تميل إلى اللحظات الرمزية المؤثرة، وتتغافل عن التفاصيل اللوجستية المعقدة التي تصنع الفرق الحقيقي على الأرض. في ظل هذا التناقض، يبدو أن على الإعلام أن يعيد ترتيب أولوياته: لا يكفي أن نُشاهد، بل يجب أن نُسائل. من يساعد فعليًا؟ ومن يكتفي بالإيماء والنية الطيبة؟
أمام كل هذه الجهود، لم تسلم المملكة الأردنية من حملات التشويه، حيث تعرّضت سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية في بعض الدول لهجمات واعتداءات متكررة.
ما يحتاجه الغزيون اليوم ليس مشهدًا رمزيًا عابرًا، بل تضامنًا فعليًا يصلهم بالطعام والدواء، الأهم من ذلك وقف حرب الإبادة بشكل عاجل ومُلِح.