بعض المستشرقين أسسوا مدرسة عملت على تصوير المشرق على أنه بعض من "فسيفساء" وكانتونات لم تتعايش وتتألف يومًا مع بعضها مما أسهم في تغذية عوامل ما زالت لليوم تعمل بفعالية لتمزيق المجتمعات في المشرق العربي إضافة إلى مغربه وتحاول أن تنفي العيش المشترك عن هذه المجتمعات.
فهذه "الفسيفساء" التي تحاول الدوائر الغربية ومراكز الأبحاث والدراسات فيها تسويقها عن المنطقة وتوظيف الوثائق والتغييرات على نصوصها وتحاول خلق انطباع من خلال شروحتها توحي بأن المشرق العربي مقسّم إلى طوائف وأديان وتتناسى تواجد أصحاب الديانات الثلاثة في هذه المنطقة والتي هي الأصل والمنبع.
وتتناسى الوثائق التي تشير إلى أن المشرق العربي حظي بأزمان من ثقافة العيش المشترك، وبخاصة قبل أن تتسلل يد الغرب إليها، وبثها الأفكار التي تعمل على تمزيقها.
وإذا ما نظرنا إلى الحواضر العربية دمشق أم بغداد أم مصر علاوة على مسيحييها الأصلاء احتضنت مدنها الديانات الثلاث، وقدمت نماذج للعيش المشترك قبل أن تصل الأفكار والطروحات الغربية، وتقص على مسامعنا شيئًا من أدبياتها.
والمثال على ذلك "القدس" التي يحاول اليمين المتطرف سلبها هويتها الجامعة التي ألّفت عبر مئات السنين بين المسلم والمسيحي واليهودي؛ والوثائق بخاصة العثمانية تظهر بجلاء كيف تعايش أصحاب الديانات الثلاث في المدينة المقدسة لسنين طويلة.
إذ تشير وثيقة عثمانية تعود لعام 1606م أن عدد غير المسلمين في المدينة المقدسة وصل إلى "154" شخصًا (وهم من دافعي الجزية)، وهذا العدد الكبير في حال أدركنا أن عدد سكان المدينة لم يتجاوز (8) آلاف نسمة فيما هذه الوثيقة لم يحتسب فيها سوى من دفع الجزية واستثناء الأطفال والنساء.
وتبين الوثيقة أن عدد المسيحيين "94" شخصًا من (دافعي الجزية) مقسمين حسب الطوائف "68" روم و "14" سريان و "12" قبط، وعدد اليهود "60" شخصًا.
هذه واحدة من وثائق تروي التواجد الذي يحاول المتطرفون تبديله بمشاريع تفريغ للمدينة المقدسة وتقديم نموذج مغاير لما ساد المشرق وحواضره مئات السنين.
إنّ نموذج العيش المشترك الذي قدّمه المشرق العربي على مدى مئات السنين بجوهر إنسانه وإرثه الحضاري الإنساني والغني بأدبياته ما زال يحاجج هذا التيار اليميني، وعلينا مسؤولية كبيرة كأبناء هذه الأرض أن نقدم نموذجنا، ونقارنه مع نموذج اشتهر بحملات التطهير العرقي والديني والإثني؛ فالمجتمعات في هذه المنطقة ما زالت ذاكرتها قوية على الرغم من معاناتها واستنزافها لأنموذج العيش المشترك المنتمي للمشرق العربي- قادر على بناء نقيض للطروحات التي تتسلل في ظرف دقيق نعيشه ومرحلة مفصلية من تاريخ المشرق العربي.

العبادي يكتب: 'الفسيفساء' في المشرق العربي

د.محمد يونس العبادي
كاتب وأكاديمي أردني
كاتب وأكاديمي أردني
مدار الساعة ـ