لا يكاد يمضي يوم أو اثنين، إلا ويضبط بواسل جيشنا العربي مُحاولات تهريب قادمة من الجنوب السوري.. لم تعد هذه الأخبار استثناءً، بل روتينًا مُقلقًا، والرسالة تتكرر: الجنوب لم يهدأ، وكُلما دارت الرحى هُناك، تضيق أنفاس عمان.
هذا ليس توصيفًا تشاؤميًا، بل واقع جيوسياسي، تتجاهله تفاهمات تُبرم خلف الأبواب المُغلقة، فالجنوب السوري ليس مجرد منطقة مُضطربة في خريطة الجار الشمالي، بل امتداد جغرافي وإنساني وأمني للأردن، أي أن ما يحدث هُناك لا يبقى هُناك.وعلى الرغم من ذلك، تُعقد تفاهمات، وتُرسم خرائط للمنطقة، من دون أن يكون الأردن حاضرًا فيها.. حديث عن ترتيبات أمنية، تفاهمات ثنائية، وأحيانًا صفقات مؤقتة، وكأن عمان مجرد حارس على الحدود، لكنها ليست كذلك.الجنوب السوري مصدر قلق أمني حقيقي للأردن، فالحدود الشمالية باتت مسرحًا لنشاط جماعات مُسلحة، وشبكات تهريب مُتطورة، وأحيانًا قوى إقليمية تبحث عن موطئ قدم.. في ظل هذه الظروف، فإن أي سيناريو لا يضع الأردن في قلب مُعادلة الجنوب، ليس فقط ناقصًا، بل خطير.وتكرار مُحاولات تغييب الدور الأردني، لا يعني فقط تهميشًا دبلوماسيًا، بل تهديد مُباشر للاستقرار، إذ إن ترك الجنوب في حالة فراغ أمني، أكان عبر إضعاف الوجود العسكري السوري أم عبر التراخي أمام ميليشيات، يُنتج رخاوة يستحيل احتواؤها لاحقًا.معروف أننا نستضيف نحو 1.3 مليون لاجئ سوري، يُشكل القادمون من مُحافظات الجنوب حوالي 40 بالمائة منهم، وهذا الرقم ليس عبئًا إنسانيًا فحسب، بل مُعادلة إقليمية مُعلقة على شرط العودة.لكن العودة ليست رغبة فقط، بل حبيسة لاستقرار أمني، وبُنية تحتية قابلة للحياة، وضمانات سياسية تمنع تكرار النزوح، وكُل هذا غير مُمكن دون حضور أردني فعال في أي تسوية تخص الجنوب.كما أن نهر اليرموك ليس مجرد ممر مائي، بل شريان حيوي تعتمد عليه المملكة في تلبية جزء من احتياجاتها في مواجهة العطش.. الاتفاق الثنائي بين عمان ودمشق يمنح الأردن نحو 200 مليون متر مُكعب سنويًا، لكن الواقع مُختلف، فالحصة الفعلية انخفضت مع قيام سورية ببناء 49 سدًا تقريبًا على نهر اليرموك، ما يُعد تجاوزًا واضحًا لاتفاقات تقاسم المياه مع الأردن.وفي ظل التحولات الميدانية شمال النهر، حيث تتقاطع المصالح السورية مع الإسرائيلية، يتحول الماء إلى أداة نفوذ، بل أداة ابتزاز سياسي، فاتفاق تقاسم مياه اليرموك، الموقع مؤخرًا، أعاد الأمل، لكنه يظل هشًا لأن استمراره مرهون باستقرار الجنوب، وهو ما لا يُمكن ضمانه دون دور أردني أصيل في مُعادلة الأمن هُناك.شهدنا كيف أن مناطق مثل: السويداء ودرعا، شهدت تراجعًا لافتًا في سلطة الدولة السورية، في مُقابل صعود تشكيلات مُسلحة محلية ذات ولاءات مُتباينة، وهذا التبدل لا يعني فقط نهاية سيطرة الحُكومة، بل بداية فراغ يصعب ضبطه.الإقدام على خطوات، مثل إفراغ الجنوب من الوجود العسكري الحُكومي، أو إقامة مناطق منزوعة السلاح دون توافق شامل، لا يفتح الباب للاستقرار، بل للفوضى.إذن، الجنوب السوري ليس تفصيلًا سوريًا داخليًا، بل عُقدة إقليمية يتقاطع فيها الأمن، والمياه، واللاجئون، والتوازنات الدولية، وتجاهل الأردن في هذه المُعادلة يعني خلق فجوة، والفجوات لا تبقى فارغة طويلًا.ونحن في الأردن لم ولن نسعى إلى الهيمنة، بل إلى الشراكة، لا طلب مُعاملة تفضيلية، بل ضمانات مشروعة، يجب أن تكون في صلب أي تفاهم.لذلك، فإن أي مُحاولة لإقصائه من مُعادلة الجنوب ليست مجرد خطأ دبلوماسي، بل تهديد يُعيد إنتاج الأزمة بكُل أشكالها: تهريب، فوضى، ومياه تتقلص عامًا بعد آخر.الجنوب ليس ملفًا مُغلقًا، ولا هامشًا جغرافيًا، إنه جرح نازف من كتاب المنطقة.. والأردن، بحدوده ومصالحه، شريك لا يُمكن تجاوزه إذا أردنا لهذا الجرح أن يلتئم.
الجنوب السوري.. خاصرة الأردن الرخوة
مدار الساعة (الغد الأردنية) ـ