لطالما كان اليسار الأردني حاضرًا في الذاكرة السياسية كتيار حمل همّ العدالة الاجتماعية والدفاع عن القضايا الوطنية، مؤمنًا بأن الحرية والمساواة قيم لا يسقطها الزمن. إلا أن التحولات الكبرى التي شهدها الأردن والمنطقة خلال العقود الأخيرة جعلت المسافة تتسع بين هذا التيار وبين جيل جديد وُلد في واقع مختلف تمامًا عن زمن تأسيسه. لم تعد القضايا التي شكلت عماد الخطاب اليساري في الماضي هي ذاتها التي تملأ وجدان الشباب اليوم، ولم تعد اللغة التي صيغت بها تلك الشعارات قادرة على ملامسة اهتماماتهم أو التفاعل مع أولوياتهم اليومية.
المشكلة ليست في جوهر المبادئ التي يتبناها اليسار، فهي ما زالت تحمل معاني ضرورية لأي مشروع وطني حديث، بل تكمن الأزمة في طريقة التعبير عنها، وفي أدوات العمل التي ظلت أسيرة قوالب تقليدية ومناهج نقدية تجاوزها الزمن. أمام جيل يواجه تحديات العمل، والتعليم النوعي، والمشاركة السياسية، يصبح الخطاب المؤدلج المغلق على ذاته عاجزًا عن استقطابهم أو إشراكهم في صناعة المستقبل.قبل أن يحلم اليسار الأردني بالتوحد، عليه أن يباشر مراجعة عميقة وهادئة تعيد صياغة أولوياته على قاعدة أن الأردن هو الإطار الجامع لأي مشروع أو برنامج. الأردن دولة قائمة بذاتها، وليست ساحة خلفية لأي فكرة أو امتداد، وهو وطن ذو مؤسسات راسخة وكبيرة، لا تنظيم سياسي يُدار بعقلية الفصائل أو المكاتب المغلقة. هذه المراجعة لا تعني الانسلاخ عن القيم أو التخلي عن العمق الفكري، بل تعني إعادة توظيف تلك القيم في سياق وطني، يقدّم اليسار كفرصة للعمل المشترك، لا كخطر يهدد شكل الآخر أو هويته. فالتوحد المنشود لن يكون ثمرة اتفاق تنظيمي أو شكلي، بل نتيجة تلاقي في الرؤية والمقاصد، ووعي بضرورة أن يتحول هذا التيار إلى قوة إصلاحية جامعة، منفتحة على شراكات سياسية واسعة.إن تجديد لغة الخطاب مع الشباب هو البوابة التي لا غنى عنها لأي انطلاقة جديدة. هذا الجيل يريد أن يسمع لغة قريبة، قادرة على ترجمة القضايا الوطنية الكبرى إلى سياسات وبرامج تمس حياته اليومية، لا أن تظل حبيسة الشعارات أو النقاشات النظرية. الشباب ينجذبون إلى القيادة التي تشاركهم العمل وتفتح أمامهم مساحات المشاركة، أكثر مما ينجذبون إلى الخطابات التي تُلقى من مسافة بعيدة. ومن هنا، فإن تحديث الخطاب ليس خيارًا تجميليًا، بل ضرورة وجودية لليسار إذا أراد أن يبقى حاضرًا في المعادلة السياسية.إن اللحظة السياسية التي يعيشها الأردن، في ظل مسار التحديث السياسي الذي يقوده جلالة الملك، تفتح أمام جميع القوى، بما فيها اليسار، فرصة لإعادة التموضع والانتقال من حالة الانقسام إلى العمل المشترك. قد يكون الطريق طويلًا ومعقدًا، لكن الاتجاه واضح: من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن الخصومة إلى الشراكة، ومن الحنين إلى الماضي إلى صناعة المستقبل.اليسار الأردني اليوم أمام مفترق طرق حقيقي، إما أن يبقى أسير ذاكرة نضالية عظيمة ولكنها مجمدة، فيبتعد أكثر عن نبض المجتمع، أو أن يقرأ واقعه بعيون جديدة، ويجدد فكره ولغته وأدواته، ليعود قوة سياسية إصلاحية مؤثرة، جذرها وطني وأفقها إنساني. وحينها فقط يمكن لحلم التوحد أن يتحول من عنوان إلى واقع، ومن أمنية إلى رافعة حقيقية لبناء الأردن الذي نريده جميعًا.
اليسار الأردني.. بوصلة ضائعة أم حلم مؤجل؟
مدار الساعة ـ