هنري كسينجر، الدبلوماسي والمفكر الاستراتيجي الأميركي المعروف لم يقتصر تأثيره على السياسة الخارجية خلال القرن العشرين بل امتد في سنواته الأخيرة إلى قضايا الفكر والتكنولوجيا، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي. ورغم تقدمه في العمر فقد أدرك كسينجر مبكراً أن هذه التقنية ليست مجرد أداة جديدة لتطوير الاقتصاد أو تحسين الإنتاجية بل هي تحوّل جذري سيعيد تشكيل الفكر الإنساني، العلاقات الدولية، والأمن العالمي.
1. الذكاء الاصطناعي كتحول فلسفييرى كسينجر أن الذكاء الاصطناعي لا يشبه أي ابتكار سابق كالطباعة أو الكهرباء أو الإنترنت، لأن تلك الأدوات كانت تُعزّز قدرات الإنسان وتخضع لوعيه وإرادته، بينما يفتح الذكاء الاصطناعي الباب أمام إنتاج معرفة مستقلة قد لا يفهمها الإنسان بالكامل. أي أن الخطر ليس في قدرة الآلة على الحساب فقط، بل في إمكانية أن تبتكر حلولاً أو استنتاجات لا يقدر العقل البشري على تفسيرها.2. السياسة الدولية أمام تحديات جديدةفي تحليلاته، شبّه كسينجر ظهور الذكاء الاصطناعي ببزوغ عصر نووي جديد. فكما غيّرت الأسلحة النووية مفاهيم الردع والحرب والسلم، فإن الذكاء الاصطناعي يعيد صياغة معادلات القوة الدولية. الدول العظمى – الولايات المتحدة، الصين، روسيا – تسابق الزمن في امتلاك خوارزميات أكثر تقدماً ما يعني أن ميزان القوى القادم لن يُقاس فقط بالجيوش والأسلحة بل بالقدرة على التحكم بالبيانات والخوارزميات.3. مخاطر الفوضى المعرفيةيحذّر كسينجر من أن إدماج الذكاء الاصطناعي في الإعلام شبكات التواصل واتخاذ القرار السياسي قد يقود إلى عالم يفتقر للحقيقة الموضوعية. إذ يمكن للآلات أن تولّد معلومات مقنعة لكنها مضللة ما يهدد الديمقراطية ويعزز الاستقطاب الاجتماعي والسياسي. وهنا يؤكد على خطورة أن يصبح الإنسان تابعاً لمخرجات الذكاء الاصطناعي دون قدرة على التحقق منها.4. الحاجة إلى إطار أخلاقي وفلسفيلم يكن كسينجر معارضاً للتقدم التكنولوجي لكنه شدد على ضرورة وجود فلسفة أخلاقية وقانونية تنظّم العلاقة بين الإنسان والآلة. دعا إلى وضع ضوابط دولية تشبه معاهدات منع انتشار الأسلحة النووية ولكن هذه المرة لضبط انتشار الذكاء الاصطناعي واستخدامه، حتى لا يتحول إلى أداة تدمير ذاتي أو سيطرة شاملة.5. إرث فكري يتجاوز السياسةمن خلال مقالاته وكتابه المشترك مع إريك شميت (الرئيس التنفيذي السابق لغوغل) ودانيال هوتنلوشر بعنوان عصر الذكاء الاصطناعي، ترك كسينجر رؤية نقدية تُحذّر العالم من الانغماس في سباق التسلح التكنولوجي دون وعي فلسفي. فقد رأى أن الذكاء الاصطناعي سيُغيّر ماهية المعرفة نفسها، وبالتالي يعيد تشكيل مفهوم الحقيقة والعقل وحتى الحضارة الإنسانية.رؤية هنري كسينجر للذكاء الاصطناعي تعكس عقلية رجل دولة أدرك أن أكبر التحديات في القرن الحادي والعشرين لن تكون جيوسياسية فقط بل معرفيةوفلسفية فالمستقبل، يتوقف على قدرة البشر على إخضاع الآلة للقيم الإنسانية لا أن يخضعوا هم لسطوتها.
العدوان يكتب: فوضى الحقيقة الرقمية
مدار الساعة ـ