البيئة الأردنية اليوم تعكس صورة قاتمة لتراكم الإهمال وتضارب السياسات، حيث تحوّلت وزارة البيئة من مرجعية وطنية لحماية الموارد الطبيعية إلى جهاز إداري يكتفي بالاستعراض الإعلامي والحملات اللحظية، دون معالجة جذرية للأزمات البيئية، مما أصبح عبئاً مباشراً على الصحة العامة، والاقتصاد الوطني، والأمن المائي.
الانتقائية في الشراكة وضعف العدالة البيئية:تمارس وزارة البيئة انتقائية واضحة في التعامل مع مؤسسات المجتمع المدني البيئية، حيث تُمنح الامتيازات في تمويل المشاريع والتمثيل في الدورات والندوات واللجان والاجتماعات المحلية والخارجية لعدد محدود من الجمعيات على حساب الغالبية العظمى، رغم وجود نحو 110 جمعية بيئية مسجلة في الأردن، والنتيجة: تكرار المشاريع ذات الأثر المحدود، غياب التنوع في الخبرات، تكرار الوجوه وضعف الثقة العامة بالسياسات الرسمية.الطرح العشوائي للنفايات:رغم الحملات الإعلامية المتكررة التي تنفذها وزارة البيئة لا تزال الطرق والوديان والمناطق السكنية تشهد تفاقم ظاهرة الطرح العشوائي للنفايات، حملات الوزارة قصيرة الأمد، مصممة للاستعراض الإعلامي، وإلقاء الخُطَبْ الرنانة، والتقاط الصور التذكارية، وبعدها يذهب المشاركون كل في سبيله، وتفشل الحملات ويبقى الاثر البيئي صفر. سيل الزرقاء… شريان حياة تحول لمكب نفايات وفقد قيمه الجمالية:تتواجد على ضفاف السيل أنشطة ملوِّثة مثل: المجمعات الحرفية كمعامل الطوب ومناشير الحجر، ومحطات رفع المياه العادمة، ومحلات الخردة، جميعها تعمل منذ عقود، وتطرح مخلفاتها في حرم السيل وتشوه منظره الطبيعي، وتفقده قيمه الجمالية. اما الأنقاض ومخلفات فتح الطرق والاتربة فقد تراكمت في حرم السيل واصبحت تهدد المجرى بالاغلاق، وتنجرف شتاءً مع مياه الامطار وتستقر في سد الملك طلال وبذلك فهي تقلل من طاقته في تخزين المياه، في بلد يعد من افقر دول العالم مائياً.الضوضاء وتلوث الهواء:الباعة المتجولون يجوبون الأحياء السكنية طيلة النهار مطلقين العنان لمكبرات الصوت وأبواق سياراتهم، لتسويق بضائعهم دون ضوابط، اما تلوث الهواء فهو ناتج عن حرق النفايات والكوابل والإطارات التي ينبعث منها خليط سام من الملوثات المسببة للامراض التنفسية، دون حسيب او رقيب.تناقض القرارات الحكومية وغياب موقف وزارة البيئة:من المؤسف حقاً ان تغيب الوزارة عن القرارات الحكومية التي تمس البيئة مباشرة، مثل قرار الزام المؤسسات باعتماد صناديق البريد التقليدية والعودة إلى البريد الورقي، في الوقت الذي تتسابق فيه الدول نحو الرقمنة، وتكريس مفهوم الحكومة الالكترونية وتطبيقاتها، فالبريد الورقي لا يصل عبر الغيوم، بل يتطلب وسائل نقل، ما يعني استهلاك وقود، ورفع انبعاثات الكربون، وضوضاء، وان اعتماد المراسلات الورقية يعني استهلاك مزيد من الورق المصنع من الاشجار التي يتم قطعها، والمزيد من الاحبار السامة المستخدمة في الطباعة، والمزيد من النفايات الورقية الصلبة المتراكمة، الأمر الذي يمثل انتكاسة لمبدا الحكومة الالكترونية، وسياسة تتناقض مع التحول نحو الرقمنة ومواكبة العصرنة والتطور، في حين انه تم فرض ضرائب ورسوم على مشاريع الطاقة المتجددة، بدلاً من تحفيز وتشجيع الاستثمار في الطاقة النظيفة. أما عدم استثمار التوجيهات الملكية السامية الواردة في كتب التكليف الموجهة للحكومات المتعاقبة المتعلقة بحماية البيئة، ما هو إلا سياسة تتناقض مع التحول نحو الاقتصاد الأخضر، اليس هذا تناقضاً صارخاً بين القول والفعل؟ واين البعد البيئي من هذه القرارات؟رسوم طلبات تمويل المشاريع البيئية:فرض رسوم على طلبات منح صندوق حماية البيئة أدى ويؤدي إلى إحجام الجمعيات الصغيرة عن التقدم، وتقليل عدد المشاريع المنفذة، وإضعاف الحافز للعمل التطوعي البيئي.بناءً على ما تقدم وبحسب خبراتي العملية التي تمتد لأكثر من ثلاثين عامًا في قطاع البيئة، أجد لزامًا عليّ أن أضع أمام المسؤولين والمعنيين بالأمر بدءً بدولة رئيس الوزراء ثم معالي وزير البيئة جملة من الحقائق والأولويات التي لم تعد تحتمل التأجيل، فهي وحدها القادرة على تصويب الأوضاع وإعادة القاطرة البيئية إلى مسارها الصحيح.فلا إصلاح بيئي ممكن من دون شراكات حقيقية وشفافة مع مؤسسات المجتمع المدني، بعيدًا عن الانتقائية التي عطّلت الجهود وأضعفت أثرها. ولا جدوى من الحملات الاستعراضية التي تُستهلك في الإعلام أكثر مما تُترجم على الأرض، ما لم تتحول إلى خطط متابعة ورقابة ميدانية جادة تُغلق الباب أمام الطرح العشوائي للنفايات.إن سيل الزرقاء على وجه الخصوص لم يعد يحتمل المزيد من الإهمال؛ فإعلان حالة طوارئ بيئية بات ضرورة قصوى، تبدأ بإزالة الأنقاض ومراقبة النشاطات الملوِّثة، وتتوازى مع تشديد الرقابة على حرق النفايات والكوابل والإطارات وفرض عقوبات رادعة توقف هذا النزيف البيئي المستمر.وفي الوقت نفسه، فإن أي قرار حكومي يُتخذ من دون تقييم بيئي معمّق قبل إقراره هو بمثابة مغامرة غير محسوبة، لا تقل خطورة عن التجاوزات الميدانية نفسها، ومن هنا تبرز الحاجة إلى تحويل التوجيهات الملكية السامية من شعارات متكررة إلى سياسات عملية نافذة، تُعيد الاعتبار لقيمة البيئة في أولويات الدولة.ولا بد أيضًا من إلغاء الرسوم المفروضة على طلبات تمويل المشاريع البيئية لتمكين الجمعيات والمبادرات من أداء دورها، وإطلاق خطة وطنية لمكافحة الضوضاء والفوضى الصوتية التي باتت تهدد الصحة العامة وتشوّه الحياة اليومية في أحيائنا، أما الضرائب المفروضة على مشاريع الطاقة المتجددة، فقد آن الأوان لإلغائها أو تخفيفها بما يضمن استدامة هذا القطاع الحيوي ويخفض الانبعاثات.إن هذه الخطوات ليست رفاهية ولا ترفًا سياسيًا، بل خيار استراتيجي وضرورة وطنية عاجلة. فالبيئة النظيفة ليست مجرد مطلب ثانوي، بل هي أساس صحة الناس، وركيزة التنمية، وضمانة المستقبل لأجيال قادمة تستحق أن تعيش في وطن يتنفس هواءً نقيًا، لا دخانًا سامًا.
الزواهرة يكتب: تقزيم البيئة.. الوجه الخفي لسياسات وزارة البيئة

عدنان الزواهرة
مهندس بيئي
مهندس بيئي
مدار الساعة ـ