أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات جامعات مغاربيات خليجيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

التل يكتب: 'الحكومة كمنصة' تعزيز لمستقبل الأردن الرقمي يرفع الرضا ويهيئ لقطاع عام وخدمي كفؤ ورشيق


د. قاسم التل

التل يكتب: 'الحكومة كمنصة' تعزيز لمستقبل الأردن الرقمي يرفع الرضا ويهيئ لقطاع عام وخدمي كفؤ ورشيق

مدار الساعة ـ

في السنوات الأخيرة، أصبح التحول الرقمي جزءاً أساسياً من خطط التطوير في مختلف دول العالم، ولم يعد مجرد إدخال للتكنولوجيا في الخدمات الحكومية، بل تحولاً جذرياً في طريقة تصميم وتقديم هذه الخدمات. ومن بين المفاهيم الحديثة التي برزت في هذا الإطار هو مفهوم "الحكومة كمنصة"، وهو نموذج يجعل الواجهات الرقمية للحكومة أكثر من مجرد جهة تقدم خدمات، بل بيئة رقمية مشتركة تتيح للجهات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني التعاون لتطوير خدمات جديدة تلبي احتياجات الناس بشكل أسرع وأكثر كفاءة.

ما معنى "الحكومة كمنصة" (Government as a Platform - GaaP)؟

لتقريب الصورة، يمكن تشبيه "الحكومة كمنصة" بشبكة الطرق العامة. فكما توفر الحكومة الطرق المعبدة والجسور والإشارات المرورية ليستفيد منها الجميع، فإنها في هذا النموذج توفر "طرقاً رقمية" أساسية أو بنية تحتية رقمية مفتوحة ضمن ضوابط أمن المعلوماتية، مثل الهوية الإلكترونية، وأنظمة الدفع عبر الإنترنت، وإمكانية تبادل البيانات بين الجهات. هذه البنية التحتية الرقمية يمكن للجميع استخدامها، سواء كانت وزارة، أو شركة خاصة، أو مبتكر شاب لديه فكرة لخدمة جديدة. الفائدة هنا أن الجميع يستخدم نفس الأساس المشترك، مما يوفر الوقت والجهد ويمنع إزدواجية العمل والمشاريع الجديدة.

أمثلة حياتية توضح الفكرة

تخيل أن مواطناً يريد تسجيل مولوده الجديد وإتمام ما يحتاجه من خدمات، مثل: التأمين الصحي ودفتر المطاعيم وغيرها، وبدلاً من أن يستخرج وثيقة إخطار الولادة من المستشفى ثم يزور أو يخاطب مكاتب الأحوال المدنية، ثم وزارة الصحة، ثم شركة التأمين أو الجهة التي يعمل لديها وغير ذلك من جهات، كل على حدة، للقيام بالإجراءات التي ترتبط بذلك، يمكنه الدخول إلى منصة رقمية موحدة، حيث يملأ البيانات ويحمّل الوثائق المطلوبة مرة واحدة، فترسل تلقائياً إلى كل الجهات المعنية، فيتم تسجيل المولود، وتحديث بيانات الأسرة، وإرسال إخطار الولادة، وطلب التأمين الصحي وغيرها، وكل ذلك من هاتفه أو حاسوبه.

أو لنأخذ مثالاً لمستثمر يريد الحصول على ترخيص لمصنع جديد. في الوضع التقليدي، سيضطر للتنقل بين عدة وزارات وهيئات وبلديات، وكل جهة تطلب نفس المستندات تقريباً. أما في نموذج "الحكومة كمنصة"، فسيقدم الطلب عبر بوابة موحدة، فتصل البيانات مباشرة إلى كل الجهات المختصة، وتتم الموافقات بشكل متوازٍ، مما يقلل الوقت من أسابيع أو أشهر إلى أيام.

الوضع في الأردن اليوم

في الأردن، بدأ هذا التوجه يظهر من خلال مبادرات مثل منصة "سند"، التي تجمع العديد من الخدمات الحكومية في مكان واحد، ومنصات أخرى مثل "المنصة الوطنية للتشغيل" و"حكومتي". هذه المبادرات مهمة، لكنها ما زالت تعمل بشكل منفصل إلى حد ما، وما زلنا بحاجة إلى ربطها جميعاً في منظومة رقمية واحدة تشمل كل الوزارات والبلديات، وتعمل وفق معايير موحدة، بحيث يشعر المواطن أو المستثمر أنه يتعامل مع وحدة واحدة شاملة ومتكاملة.

التحديات التي يجب تجاوزها

أحد أبرز التحديات هو عدم توحيد قواعد البيانات بين الجهات المختلفة، وأحيانا داخل الجهة الواحدة، مما يؤدي إلى تكرار المعلومات وازدواجية أو تضارب الإجراءات وبالتالي تعقيد الخدمة وإطالة وقت الإنجاز. كذلك، الهوية الرقمية في الأردن قطعت شوطاً جيداً عبر تطبيق سند، لكنها تحتاج لتطوير أكبر لتصبح بطاقة تعريف رقمية شاملة يمكن استخدامها في أي معاملة رقمية، سواء مع جهة حكومية أو خاصة.

الفوائد عند اكتمال النموذج

عند اكتمال تطبيق "الحكومة كمنصة"، سيشعر المواطن أن الحكومة أصبحت أقرب وخدماتها أصبحت أسهل. ستتراجع الواسطة والمحسوبية، وتتراجع السلبيات البيروقراطية، وبالتالي سترتفع نسبة رضا المواطن ومعها نسب الثقة بالحكومة.

سيتعامل المواطن مع منصة واحدة بدل عدة جهات، وسيتعاطى مع نظام إلكتروني واضح ودقيق، لا يعرف المزاجية ولا الطرق الملتوية، وسيتمكن كل مراجع من متابعة معاملاته وإتمامها في دقائق، وسيتم إنجازها خلال ساعات بدلاً من أيام أو أسابيع.

أما بالنسبة للمستثمرين، ستقل التعقيدات البيروقراطية، وسنتمكن من خلق بيئة جاذبة للاستثمار فعليا، مما يشجع على ضخ استثمارات جديدة وخلق فرص عمل. أما الشركات الناشئة، فستتمكن من بناء خدمات مبتكرة فوق البنية التحتية الحكومية، مما يخلق حلولاً جديدة للتحديات المجتمعية والاقتصادية.

الموظفون المسؤولون عن إنجاز المعاملات لن يعودوا مضطرين إلى التعامل المباشر مع عشرات المراجعين بشكل مباشر، وسيتراجع الوقت اللازم للتأكد من توفر جميع الوثائق والبيانات، حيث سيحتاج إتمام تعبئة الطلب إلى توفرها جميعها قبل إرساله، وسيقل الوقت اللازم للمراسلات والتواقيع والجهد المبذول في تنظيم البريد الداخلي والمخاطبات، وسيتخلص الموظفون من الحرج الناجم عن الواسطة والمحسوبيات الاجتماعية.

ومن ناحية المسؤول الحكومي وصانع القرار، فسيصبح لديه اطلاع أشمل وصورة أوضح عن واقع الحال، وسيتمكن بسهولة من أن يعرف ما هي الإجراءات والوثائق المطلوبة لكل معاملة رسمية، والجهات المرتبطة بها وبالتالي يصبح أقدر على مراجعتها وتطويرها، وصولا إلى حكومة كفؤة ورشيقة.

دروس مستفادة من التجارب الدولية

دول مثل المملكة المتحدة وإستونيا نجحت في ذلك. فالمملكة المتحدة وحدت خدماتها الرقمية عبر "خدمة الحكومة الرقمية"، مما وفر التكاليف ورفع مستوي رضا المواطنين. وفي إستونيا، ربطت منصة "X-Road" كل الجهات الحكومية والخاصة في شبكة رقمية موحدة، مما جعل الخدمات أسرع وأكثر أماناً.

ما الذي نحتاجه في الأردن؟

النجاح في هذا النموذج يتطلب أولا قرار سياسيا إداريا حازما نحو الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، بالشراكة الكاملة مع القطاع الخاص، ثم مراجعة وتعزيز قوانين حماية البيانات ومعها تعزيز الأمن السيبراني. بعد ذلك يجب تدريب الموظفين على المهارات الرقمية اللازمة. كما يجب إشراك كل القطاعات سواء الحكومة أو القطاع الخاص أو الجامعات أو المجتمع المدني، وكل جهة رسمية أو أهلية تقدم أي خدمة عامة.

كل هذا طبعا تحت قيادة حكومية تضع رؤية طموحة، وخطط وبرامج قابلة للتطبيق ضمن جدول زمني معقول وأهداف قابلة للقياس، ومتابعة حثيثة للتنفيذ لضمان الاستمرارية والحرص على التطوير.

"الحكومة كمنصة" ليست مجرد مشروع تكنولوجي، بل هي تحول في ثقافة العمل الحكومي، يضع المواطن في قلب العملية، ويجعل الخدمات أكثر سهولة وشفافية، ويحفز الابتكار والنمو الاقتصادي. إذا التزم الأردن بهذا المسار واستثمر فيه بجدية، يمكنه أن يصبح نموذجاً يحتذى به في المنطقة والعالم في مجال الريادة الرقمية، ويمكنه تصديره ليفتح أسواقا جديدة للصناعات والقدرات التكنولوجية والتقنية الوطنية.

مدار الساعة ـ