أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات وظائف للأردنيين مجتمع أحزاب مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف شهادة جاهات واعراس مناسبات مستثمرون جامعات بنوك وشركات دين اخبار خفيفة رياضة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

خريسات يكتب: ما الفرق بين الجاهز والتفصيل؟


أ. فراس خريسات
إمام وخطيب، ومصلح اجتماعي، وباحث في فلسفة العلاقات والأخلاق

خريسات يكتب: ما الفرق بين الجاهز والتفصيل؟

أ. فراس خريسات
أ. فراس خريسات
إمام وخطيب، ومصلح اجتماعي، وباحث في فلسفة العلاقات والأخلاق
مدار الساعة ـ

سؤال يبدو بسيطًا، لكنه في جوهره أعمق من خيط يُقاس به الثوب، أو مقاس حذاء على رفّ في السوق.

هو سؤال يُختبر به عمقنا الإنساني: كيف نرى الآخر؟ وكيف نحب؟ وكيف نبني علاقاتنا؟

في زمن السرعة، يحبّ الناس كل شيء جاهزًا:

الطعام جاهز، الفكر جاهز، وحتى الشريك… جاهز.

يريد الإنسان أن يُفتح له القلب كما تُفتح العلبة،

وأن يُصمم له الرفيق كما تُفصّل له البدلة، دون عناء، دون تضحية، دون تفهّم.

لكن الواقع أقسى من السوق…

فما كل “جاهز” يليق بك،

وما كل “تفصيل” سهل الصنع،

ومشكلتنا أننا لا نفرّق بين الاثنين.

✦ الجاهز: راحة مُقلِقة

في العلاقات الاجتماعية والأسرية، “الجاهز” هو الإنسان ذو الطبع الجامد…

الذي يقول لك منذ البداية: “أنا هيك، خذني كما أنا.”

لا يغيّر، لا يُحاور، لا يُراعي، لا يتنازل.

وإن اختلفت معه، فالمشكلة فيك لا فيه… لأنه يظن نفسه “مقاسًا ثابتًا”،

وأنك إن لم تكن مناسبًا له، فعليك أن تغادر دون شكوى.

لكن هذه الراحة… مقلقة.

لأنها تضعك دائمًا في موضع التأقلم القسري،

وتجعل العلاقة ساحة شدّ وجذب لا تنتهي،

إلى أن تُمزق القلوب كما يُمزق الثوب الضيّق.

✦ التفصيل: مشقة تؤدي إلى الراحة

أما التفصيل… فهو الإنسان المرن،

الذي جاءك لا كما يريد هو، بل كما يريد الله:

“وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ”

“وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً”

ليس المثالي، بل الواقعي… الذي يتغير، ويصبر، ويقبل التعديل بلطف،

ويعرف أن كل علاقة تحتاج إلى مقصّ صبر، وخيوط تفاهم، وإبرة من رحمة.

“التفصيل” يعني أنك ترى الآخر شريكًا في البناء، لا غريمًا في التغيير.

يعني أنكما تنحتان معًا ثوب العلاقة على جسدكما المشترك… لا أحد يلبس الآخر عنوة.

✦ في فكر المسيري:

كان يحذر دائمًا من الإنسان “المُسطَّح”، الذي يخشى العمق والتغيير، ويبحث عن الحلول الجاهزة.

والمجتمعات كذلك…

حين تريد من الفرد أن يطابق قالبًا معينًا، ثم تحاسبه إن ضاق القالب عنه، فهي تفكر “تفكيرًا استهلاكيًا”، لا “تفكيرًا حضاريًا”.

وما أكثر العلاقات التي انهارت لأنها أرادت من الإنسان أن يكون “منتجًا مغلّفًا”، لا شخصًا ينمو ويتطور.

✦ الرافعي لو نظر إلى هذه الفكرة…

لقال إن أرواح الناس لا تُقاس بالمتر، بل بالمقدار الذي تُضيئك به.

وأن الجمال ليس في أن تجد من يُشبهك، بل من يُرضيك وأنتما تتشكّلان معًا.

✦ مالك بن نبي…

كان سيقول إن المجتمعات القادرة على خلق “علاقات مُفصّلة” هي المجتمعات القادرة على التراحم.

لأنها لا تهدم الاختلاف، بل تحتويه وتنظّمه وتشذّبه.

✦ فماذا نختار نحن؟

نختار أن نبحث عن “الجاهز” فنرتاح أول العلاقة، ثم نختنق،

أم نختار “التفصيل” فنُرهق أنفسنا قليلًا، ثم نهنأ بلباس نرتاح فيه ونرتاح معه؟

العلاقات الصالحة لا تُشترى، بل تُفصَّل.

والتفاهم لا يُمنح، بل يُنتَج.

وكل علاقة لا تُبنى على حوار الرحمة، ستُهدم بصمت القسوة.

✦ في الختام:

إذا أردت علاقة تدوم…

فابحث عن من يقبل التفصيل لا من يفرض الجاهز.

وابنِ قلبك على مقاس العفو، لا على مقاس الكبرياء.

وحين تدخل علاقة… فادخلها بنيّة “الخياط”، لا بنيّة “المشتري”.

فبعض العلاقات،

حتى وإن لم تكن مثالية،

إلا أن الله يبارك فيها…

لأنها بُنيت بالإبر لا بالمطارق،

وبالمحبة لا بالمقايضة.

? ملاحظة:

استحضرتُ في هذا المقال روح بعض الكبار من مفكري الأدب والفكر: عبد الوهاب المسيري، مصطفى صادق الرافعي، ومالك بن نبي، دون التزام باقتباس مباشر، وإنما تأملًا في ما كانوا سيقولونه لو نظروا في هذا الباب

مدار الساعة ـ