مدار الساعة - في زمنٍ تتسارع فيه الشاشات كوميضٍ لا يخبو، يقف المعلّمون وصانعو القرار أمام سؤال جوهري:
هل يفتح التعليم الرقمي للطلاب أبواب الشغف الأصيل بالمعرفة، أم يتركهم عالقين في دوامة الانفصال واللامبالاة؟لقد أصبح التعليم الرقمي واقعًا لا يمكن الفكاك منه؛ اقتحم الفصول والبيوت، ولم يعد خيارًا تجريبيًا بل تحوّل إلى البيئة الجديدة للتعلّم. ومع هذا التحوّل، تبقى الدافعية – الداخلية والخارجية – البوصلة الحقيقية التي تحدّد نجاح أي تجربة تعليمية.الأساس النظري:تشير نظرية التحديد الذاتي (Self-Determination Theory) إلى أن الدافعية تقوم على ثلاثة أركان أساسية:1. الاستقلالية2. الكفاءة3. الانتماءويمتلك التعليم الرقمي القدرة على تعزيز هذه الأركان عبر التخصيص والتفاعلية والتغذية الراجعة.فرص التحفيز في التعليم الرقمي:1. الاستقلالية والتخصيصالمنصات الرقمية تمنح الطالب حرية اختيار المسار والوتيرة، مما يعزز الدافعية الداخلية. ظهر ذلك بوضوح في تجربة منصة درسك بالأردن خلال جائحة كورونا.2. التفاعلية والمتعةالفيديوهات، الألعاب التعليمية، والمحاكاة تجعل الطالب يعيش المعرفة بدلًا من استهلاكها. التجربة الفنلندية القائمة على المشاريع التفاعلية مثال بارز.3. التغذية الراجعة الفوريةالاختبارات الإلكترونية التي توفّر نتائج لحظية تولّد شعورًا بالإنجاز، كما في التجربة الكورية التي ربطت الكتب الرقمية بالتقييم المستمر.4. المنافسة البنّاءةالشارات ولوحات الصدارة قد تُحفّز الإنجاز إذا وُظفت بذكاء، مع بقاء الجوهر التربوي حاضرًا بعيدًا عن الاستعراض الفارغ.5. الانتماء الاجتماعي الرقمي:المجتمعات التعليمية التعاونية – مثل إدراك – تتيح تبادل الخبرات والحوار، مما يعزز شعور الطالب بأنه جزء من بيئة تعلم أوسع.تحديات الانفصال:غير أن الوجه الآخر للتقنية لا يخلو من آثار سلبية على دافعية المتعلم، فقد أثبتت دراسات حديثة (يونسكو، 2022؛ OECD، 2023) أن الأثر الإيجابي أو السلبي للتقنية يرتبط مباشرة بوعي المعلّم وإدارة البيئة الرقمية. ومن أبرز التحديات:1. التشتت الرقمي: تعدد التطبيقات والمصادر يضعف التركيز ويستنزف الطاقة الذهنية (Digital Fatigue).2. ضعف الانضباط الذاتي: غياب الحضور المباشر يقلل التزام بعض المتعلمين.3. سطحية المكافآت: الإفراط في الجوائز الرقمية يحوّل التعلم إلى سباق على النقاط بدلًا من رحلة نحو الفهم العميق.4. الأثر النفسي والاجتماعي: الاعتماد المفرط على الشاشة يعمّق العزلة ويزيد القلق ويضعف التواصل الوجاهي.5. إرهاق الشاشة (Zoom Fatigue): ظاهرة تقلل من الحماس والتركيز خاصة في الجلسات الطويلة.الفروق الفردية في التفاعل الرقميتشير الدراسات (2022–2024) إلى أن أثر التعليم الرقمي على الدافعية يختلف تبعًا للعمر والمستوى التحصيلي والسياق الاجتماعي:المتفوقون: يستثمرون أدوات الاستقلالية لصالحهم في البحث والتعلّم الذاتي.ضعاف التحصيل: يحتاجون إلى دعم مباشر وإشراف مستمر.ذوو الاحتياجات الخاصة: التعليم الرقمي يفتح لهم فرصًا جديدة إذا تكيف المحتوى مع قدراتهم (مثل قارئات الشاشة).المتعلمون في البيئات المحرومة: يعانون فجوة رقمية مضاعفة بسبب ضعف البنية التحتية.اختلاف المراحل الدراسية: الابتدائي يتطلب حضورًا إنسانيًا أكبر، بينما الثانوي والجامعي أكثر قدرة على الاستقلالية الرقمية.التربية القيمية الرقمية:لا يقتصر دور التعليم الرقمي على المعرفة والمهارة، بل يتعداه إلى بناء مواطنة رقمية واعية، قائمة على:1. المسؤولية الرقمية: استخدام آمن وواعي للشبكات.2. النزاهة الأكاديمية: مقاومة الغش والانتحال.3. الذكاء العاطفي الرقمي: ضبط الانفعالات والتواصل باحترام.4. الهوية القيمية: إدراك أن العالم الرقمي ليس فضاءً محايدًا، بل ساحة لتشكيل الانتماء والثقافة.هذا البُعد القيمي يُعتبر الضمانة الحقيقية كي لا تتحول التقنية إلى مجرد أداة استهلاكية فارغة.▫مقارنة بين الفصول التقليدية والرقمية:التقليدية: تركّز على الضبط الخارجي (امتحانات، رقابة)، لكنها محدودة في تعزيز الدافعية الذاتية.الرقمية: تفتح مجالات رحبة للاستقلالية والتفاعلية، لكنها تحتاج إلى إدارة واعية لتجنب العزلة أو السطحية.⚡توصيات عملية للمعلمين:1. اعتماد مشاريع وحل المشكلات والتعلم القائم على البحث.2. استخدام النقاط والشارات كوسيلة لا كغاية.3. تدريب الطلاب على إدارة الوقت (مثل تقنية Pomodoro).4. الحفاظ على حضور إنساني يضفي دفئًا على البيئة الافتراضية.⚡توصيات علمية لصنّاع القرار:1. مراجعة السياسات الرقمية بما يضمن القيمة التربوية.2. إنتاج محتوى عربي أصيل يعكس الثقافة والهوية.3. تطوير البنية التحتية لضمان وصول عادل.4. تدريب مستمر للمعلمين على الكفاءات الرقمية.5. إشراك الأسرة بدور داعم لا رقابي خانق.?السؤال الحقيقي ليس: هل نستخدم التعليم الرقمي؟ بل: كيف نوظفه ليعزز الاستقلالية، والكفاءة، والانتماء، وفق نظرية التحديد الذاتي، مع بقاء جوهر التعلّم حيًّا بالمعنى والقيم؟? التعليم الرقمي ليس حلًّا سحريًا ولا تهديدًا مطلقًا؛ إنّه أداة مزدوجة: قد يكون جسرًا إلى شغف عميق بالمعرفة، أو هاوية إلى الانفصال والسطحية.
البستنجي يكتب: أثر التعليم الرقمي على دافعية المتعلم.. بين التحفيز والانفصال
مدار الساعة ـ