المقال الثالث :

? بناء العلاقات الصفية الإيجابية: سرّ الانطلاقة الناجحة في العام الدراسي

✦ مدخل

مع بداية كل عام دراسي، يدخل المعلم إلى صفه محمّلًا بالخطط والجدول الزمني والأهداف الأكاديمية. غير أن سرّ النجاح الحقيقي لا يبدأ من دفتر التحضير، بل من اللحظة الأولى التي يلتقي فيها بعيون طلابه. هنا، حيث يختلط القلق بالحماس، يحتاج الطالب إلى يدٍ تمتد نحوه لتقول: "أنت مهم، أنت مرئي، أنت مرحّب بك هنا."

أذكر أن أحد المعلمين تحدث عن طالب جديد جلس في زاوية الصف صامتًا، لا يشارك ولا يبتسم. اقترب منه المعلّم بهدوء، ابتسم وقال له: "يسعدني وجودك معنا… صفّنا سيكون أجمل بوجودك." لم تكن جملة طويلة ولا درسًا محكمًا، لكنها كانت الشرارة التي بدّلت ملامح الطالب، فانخرط تدريجيًا في الأنشطة وأصبح من أكثر الطلاب مشاركة.

لقد أثبتت الأبحاث التربوية أن العلاقة الإنسانية الدافئة بين المعلّم وطلابه هي الأرضية التي تُبنى عليها كل معرفة لاحقة؛ فهي التي تزرع الثقة، وتفتح أبواب الدافعية، وتحوّل الصف إلى مساحة أمان وانتماء (Pianta, 2006). وقد أظهرت تقارير (OECD, 2020) أن العلاقة الداعمة بين المعلّم والطالب تُسهم في رفع دافعية التعلم وتقليل السلوكيات السلبية بنسبة ملموسة. وهذا يتسق مع ما طرحه فيغوتسكي في نظريته الاجتماعية–الثقافية حول التفاعل، ومع ما أكده هاتي (Hattie, 2017) في تحليلاته حول أثر الممارسات الصفية على الإنجاز الأكاديمي.

✦ أسس بناء العلاقات الصفية منذ اليوم الأول:

1. التعارف وبناء الانتماء

أنشطة كسر الجليد: مثل بطاقة تعريف بموهبة شخصية.

"شريك الدقائق الثلاث": حوار قصير بين الطلاب حول اهتماماتهم.

وسائط رقمية (Padlet، Mentimeter) لتبادل الاهتمامات بشكل تفاعلي.

2. عقد القيم الصفية (Classroo Contract)

تحويل القواعد إلى اتفاق جماعي.

صياغة 5–7 قيم سلوكية (احترام، تعاون، انضباط).

توثيقها في الصف أو في مستند إلكتروني مشترك.

3. المناخ العاطفي الداعم

لغة الجسد، نبرة الصوت، والابتسامة كأدوات تربوية.

تخصيص دقيقة يومية لروتين إيجابي (تنفس، لحظة امتنان).

فتح قناة رقمية آمنة (Google Forms) لتلقي الملاحظات بسرية.

4. التغذية الراجعة الإيجابية

التركيز على الجهد بدل النتيجة ("أعجبني مثابرتك" أفضل من "أنت ذكي").

جعل الملاحظات فردية وخاصة.

استخدام دفتر إلكتروني للتغذية الراجعة يعزز عقلية النمو (Dweck, 2006).

5. العدالة والاحترام

تجنّب أي مظاهر للتحيّز أو الظلم.

استخدام جدول تدويري للمسؤوليات الصفية.

توظيف لوحات رقمية لإعلان الإنجازات والمسؤوليات.

✦ استراتيجيات عملية لبناء الثقة والتفاعل:

1. كرة الأسئلة.

2. رسالة لنفسي بعد عام.

3. قصص المعلم الإنسانية.

4. لوحة الإنجاز الصفية.

5. ساعة المعلّم والطالب.

6. مجموعات دعم الأقران.

7. لوحة إنجاز إلكترونية عبر Google Classroom أو Canva Wall.

✦ كيف نقيّم نجاح العلاقات الصفية؟

ملاحظة زيادة المشاركة داخل الصف.

انخفاض السلوكيات السلبية.

استبيان قصير منتصف الفصل حول شعور الطلاب بالأمان والدعم.

✦ خاتمة تربوية

في نهاية المطاف، لن يتذكر الطالب ما شرحته من قوانين رياضية أو تفاصيل لغوية بقدر ما سيتذكر كيف جعلته يشعر: هل شعر بالأمان؟ هل شعر بأنه مقدَّر؟ هل وجد فيك المعلّم الذي يستمع قبل أن يلقّن، ويحتوي قبل أن يقيّم؟

إن بناء العلاقات الصفية الإيجابية ليس ترفًا تربويًا، بل هو جوهر التعليم، وهو الاستثمار الأعمق في شخصية الطالب ومستقبله. فالمعلّم الذي يكسب قلوب طلابه، يسهُل عليه أن يكسب عقولهم.

والقاعدة الذهبية التي تبقى صالحة مهما تغيّرت الأدوات والوسائل هي:

"العلاقة أولًا… فالتعلّم دومًا."