أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات مجتمع أحزاب وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مستثمرون الموقف شهادة جاهات واعراس مناسبات جامعات بنوك وشركات دين رياضة ثقافة اخبار خفيفة سياحة الأسرة طقس اليوم

الرواشدة تكتب: الوَحدةُ في زمنِ الازدحامِ


آلاء خالد الرواشدة

الرواشدة تكتب: الوَحدةُ في زمنِ الازدحامِ

مدار الساعة ـ

في زمنٍ تمتلئُ فيه الشوارعُ بالوجوهِ، المقاهي بالضحكاتِ، الجامعاتُ بالهمومِ، ووسائلُ التواصُلِ الاجتماعيُّ بالردِّ السريعِ،

ينتابُنا شعورُ الخوفِ والوَحدةِ.

شيءٌ غريبٌ ، بالرغمِ من أن المسافاتَ مُتقاربة ، إلّا أنّ أرواحنا مُتباعدة ،

لم نَعِ بغيابِ الناسِ من محيطِنا، إنما غياب المعنى في حضورِهم.

قد تجدُ نفسَك وسطَ حشدٍ كبيرٍ، لكنْ داخلكَ المزعجُ يُخبرُكَ:

هل منهم مَن يفهمُني، يُخبِرُني، ويُخيِّرُني؟

فيتحوَّلُ ضجيجُك إلى جدارٍ عازلٍ، يجعلكَ أكثرَ عزلةً من السابقِ.

فقد أصبحت علاقاتُنا الإنسانيّةُ محصورةً في إشعار أحد وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ، أو رسالةٍ مقتضبةٍ تحملُ بضعَ كلماتٍ لا روحَ فيها،

وكأنّ وجودَنا بات يُقاسُ بعددِ المتابعين وعددِ الإعجاباتِ، أكثرَ ممّا يُقاسُ بدفءِ الجلساتِ وصدقِ الحواراتِ.

نبحثُ عن التقديرِ في شاشاتٍ مضيئةٍ، بينما نتجاهلُ القلوبَ التي بجانبِنا.

أصبحنا نُجيدُ صناعةَ الأقنعةِ الرقميّةِ، نُخفي وراءها تعبَنا وألمَنا، وحتى لحظاتِ فرحِنا الحقيقيّةِ،

فلا أحدَ يريدُ أن يُظهرَ ضُعفَه، ولا أحدَ يريدُ أن يكونَ مكشوفًا أمام الآخرين.

لكنَّ المُفارقةَ أنّ هذا الخوفَ من الانكشافِ جعلَنا جميعًا عُراةً أمام الوحدةِ.

الوحدةُ هنا لا تأتي لأنّكَ بلا أصدقاءَ أو بلا معارفَ،

بل لأنّكَ تفتقدُ مَن يُنصِتُ إليكَ دونَ مَللٍ،

مَن يلتقطُ ارتجافَ صوتِكَ قبلَ أن تَصمُت ، مَن يفهمُ دموعَكَ قبلَ أن تسقطَ.

إنّها وحدةٌ عميقةٌ، تختبئُ خلفَ الصورِ الملوَّنةِ والمنشوراتِ المزيَّنةِ،

لكنّها تنهشُ الروحَ كلَّ يومٍ.

وسطَ كلِّ هذا، يتساءلُ الإنسانُ:

أينَ المعنى؟

لِماذا نعيشُ وسطَ هذا الكمِّ الهائل من الضجيجِ، ولا نسمعُ سوى صمتِ قلوبِنا؟

لِماذا نَحيا بين كلماتٍ كثيرةٍ، لكنَّنا نفتقدُ كلمةً صادقةً واحدةً تُنقِذُنا من الغرقِ في هذا البحرِ الرقميِّ ؟

وربما يكمنُ السرُّ في أنّ العالمَ تغيّرَ بسرعةٍ، بينما أرواحُنا ما زالت تبحثُ عن أشياءَ بسيطةٍ:

كلمةٍ صادقةٍ تُعيدُ لنا الأمانَ،

لحظةُ إنصاتٍ تُشعرُنا بأنّنا مرئيّون فعلاً .

فالبشرُ لم يُخلَقوا ليعيشوا على أطرافِ الشاشاتِ، إنما ليعيشوا في قلبِ الحياةِ،

وجهًا لوجهٍ، يدًا بيدٍ، قلبًا على قلبٍ.

الوَحدةُ في زمنِ الازدحامِ ليستْ اختياراً دائماً ،

ولكن أحيانًا عقاباً يفرضُهُ إيقاعُ الحياةِ السريعِ ،

حيث يُقاسُ الإنسانُ بما يُظهرُهُ لا بما يَحمِلُ في داخلِه.

تُقاسُ قيمتُه بقدرِ ما يلمعُ أمامَ الآخرين، لا بقدرِ صدقِه وعمقِ روحِه.

وهنا يكمنُ الألمُ ، أن تُصبحَ الحقيقةُ باهتةً أمامَ صورةٍ مُصطنعةٍ،

وأن يختبئَ القلبُ خلفَ واجهاتٍ زجاجيّةٍ براقةٍ.

لكنْ، وسطَ كلِّ هذا الغبارِ، يظلُّ هناك أملٌ صغيرٌ يلمعُ كنجمةٍ بعيدةٍ، آملين أن نجدَ مَن يسمعُنا دونَ أحكامٍ،

يرانا دونَ أقنعةٍ ،

ويمنحُنا يقينًا بأنّنا لسنا وحدَنا.

فالعُزلةُ ليست قدراً أبدياً ، بل محطّةً عابرةً تُعيدُنا في البحثِ عن الذات ،

تجعلُنا أكثرَ عطشًا للحبِّ الصادقِ، أكثرَ إيمانًا بأنّ الإنسانَ خُلِقَ ليُشاركَ روحَه لا ليُخفيَها.

في النهايةِ، لعلَّ الوحدةَ في زمنِ الازدحامِ هي جرسُ إنذارٍ يُوقظُنا، ليقولَ لنا:

لا تبحثوا عن الحضورِ في الضجيجِ، إنما ابحثوا عن المعنى في الصمتِ،

ولا تركضوا خلفَ صورٍ زائفةٍ، لكن تمسَّكوا بكلِّ يدٍ صادقةٍ تمتدُّ نحوَكم.

فالحياةُ، مهما ازدحمت، لا تُضيءُ إلّا حينَ نجدُ مَن يُشارِكُنا نورَها…

مدار الساعة ـ