أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين مجتمع أحزاب تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس مستثمرون الموقف شهادة جاهات واعراس مناسبات جامعات دين بنوك وشركات رياضة ثقافة اخبار خفيفة سياحة الأسرة طقس اليوم

العشي يكتب: جيل الأونلاين والزواج الأوفلاين.. معركة توازن مهددة بالانهيار


الدكتور محمد العشي

العشي يكتب: جيل الأونلاين والزواج الأوفلاين.. معركة توازن مهددة بالانهيار

مدار الساعة ـ

الزواج في ثقافتنا العربية لم يكن يومًا مجرد عقد بين رجل وامرأة، بل كان ولا يزال بناءً لأسرة، وتأسيسًا لمجتمع قائم على المودة والرحمة. غير أنّ المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية جعلت هذه الرابطة المقدسة تواجه عواصف شديدة، حتى غدا الزواج حلماً صعب المنال لكثير من الشباب والفتيات، وأصبحت نسب الطلاق في ارتفاع ملحوظ في دولنا العربية، ومن بينها الأردن، حتى باتت القضية حديث الساعة في الإعلام ومحل نقاش بين الخبراء والمفكرين. في هذا المقال نسلط الضوء على جملة من الأسباب التي جعلت الزواج أكثر صعوبة، وعلى رأسها تأثير التكنولوجيا، وغلاء المهور، وتعقيدات الأهل، وصولًا إلى الخوف من المسؤولية، مع تقديم رسائل إيجابية ونصائح عملية للشباب والفتيات المقبلين على الزواج، لعلها تكون بصيص أمل يرشدهم إلى الطريق القويم.

أولًا: التكنولوجيا.. الوجه المضيء والوجه المظلم

لا شك أن التكنولوجيا قدمت فرصًا عظيمة للتعارف والتواصل بين الناس، لكنها في الوقت نفسه أوجدت مشاكل لم تكن في حسبان أحد. ففي كثير من الحالات، تبدأ الخلافات بين الأزواج من مجرد محادثة افتراضية أو منشور على "فيسبوك" أو صورة على "إنستغرام". الخيانة لم تعد جسدية فقط، بل أصبحت رقمية أيضًا، الأمر الذي ولّد شكوكًا وغيّر طبيعة الثقة بين الأزواج.

كثير من الدراسات في الأردن والعالم العربي أشارت إلى أن الإدمان على الهواتف ومواقع التواصل أدى إلى فجوة عاطفية داخل البيوت؛ الزوج منشغل بشاشته والزوجة كذلك، حتى ضاعت لغة الحوار، وغابت الدفء الأسري. وتزداد خطورة الأمر عندما تُستخدم هذه الوسائل في بناء علاقات خارج نطاق الزواج، أو عندما يقارن أحد الطرفين حياته بما يراه من صور براقة ومثالية على الإنترنت، فينشأ شعور بعدم الرضا قد يؤدي في النهاية إلى الطلاق.

وفي هذا الصدد، جاء عن النبي ﷺ قوله: "إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا" (رواه الترمذي). إن الأخلاق هنا تشمل الوفاء والصدق وحفظ الأسرار، وهذه المعاني تتعرض اليوم لاختبار قاسٍ في ظل الانفتاح التكنولوجي.

ثانيًا: غلاء المهور وتعقيدات الزواج

لا يخفى على أحد أن تكاليف الزواج ارتفعت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، خاصة في الأردن، حيث يُثقل الشاب بالمهور الباهظة، وحفلات الزفاف المكلفة، والمطالب الكمالية التي لا تمت إلى جوهر الزواج بصلة. هذه الضغوط الاقتصادية دفعت بالكثير من الشباب إما إلى تأجيل الزواج، أو إلى البحث عن طرق بديلة لا تخلو من مخاطر، وقد تفضي إلى بناء علاقات غير مشروعة تتنافى مع تعاليم ديننا الإسلامي.

وقد حثّ الإسلام على التيسير في الزواج، قال النبي ﷺ: "أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة" (رواه أحمد). وهذه الكلمات الخالدة ينبغي أن تكون شعارًا لكل أسرة، فالتيسير بركة، والتعقيد شقاء. ومع الأسف، فإن بعض العائلات تتمسك بالعادات أكثر من الدين، وتضع شروطًا تعجيزية تجعل الزواج بعيد المنال.

ثالثًا: تأخر سن الزواج ومخاوف الالتزام

من التحديات البارزة أيضًا تأخر سن الزواج لدى الشباب والفتيات على حد سواء. فالظروف الاقتصادية الصعبة، مقرونة بالخوف من فقدان الحرية أو الفشل الزوجي، جعلت الكثيرين يترددون في اتخاذ خطوة الزواج. ولعل هذا التأخير يفتح الباب لزيادة نسبة العنوسة، وهو أمر يترك أثرًا نفسيًا واجتماعيًا عميقًا على الأفراد والمجتمع.

في المقابل، علينا أن نتذكر أن الزواج سكن واستقرار، قال الله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" [الروم: 21]. فالخوف من الالتزام لا ينبغي أن يمنع الإنسان من السعي وراء هذا السكن، بل عليه أن يعدّ نفسه نفسيًا وماديًا وروحيًا لهذه المسؤولية.

رابعًا: الشروط الشخصية والخلافات حول العمل والسوشيال ميديا

من القصص الواقعية التي تتكرر كثيرًا في عصرنا أن الشاب يشترط على خطيبته ألا تعمل، أو أن تترك عملها بعد الزواج، بينما ترى الفتاة أن من حقها الاستمرار في حياتها العملية. هذه الخلافات قد تنفجر قبل عقد القران أو بعده، وتتحول إلى معركة تستنزف الثقة والاحترام بين الطرفين.

وفي جانب آخر، يزداد الخلاف حول استخدام السوشيال ميديا، خاصة في مسألة نشر الصور والفيديوهات. بعض الشباب يرى أن زوجته ملك له وحده، ولا يقبل أن يراها الجميع في صور متكررة على المنصات، بينما تصر بعض الفتيات على حرية النشر. هذه الخلافات التي قد يراها البعض بسيطة، أصبحت اليوم سببًا في فسخ خطوبات وتعطيل زيجات كانت قيد التحقق.

إن العبرة هنا أن المرونة والحوار هما الأساس. ومن المهم أن يتعلم الطرفان أن التنازلات المتبادلة ليست ضعفًا بل قوة، وأن الزواج ليس ساحة لإثبات الذات بقدر ما هو ميدان للشراكة والتكامل.

خامسًا: دور الأهل بين التيسير والتعقيد

الأهل، وهم الحريصون على مستقبل أبنائهم، قد يكونون في بعض الأحيان سببًا في تعطيل زواجهم. فبعض الآباء يبالغون في وضع الشروط أو الإصرار على مهر عالٍ، أو فرض اختيارات لا تتناسب مع رغبات أبنائهم وبناتهم. والنتيجة هي تعقيد الأمور حتى تنفرط فرص الزواج.

لكن الإسلام أوصى بالرفق والتيسير، فقد قال النبي ﷺ: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (رواه الترمذي). إن هذه التوجيهات النبوية تضع الدين والخلق فوق كل اعتبار، وتجعل المظاهر المادية في مرتبة ثانوية.

سادسًا: حلول ونصائح عملية

لكل مشكلة حل، ولكل تحدٍ مخرج إذا توفرت الإرادة الصادقة. ومن بين النصائح العملية التي يمكن أن تسهم في تجاوز هذه التحديات:

1. التيسير في الزواج: على الأسر أن تخفف من مطالبها، وأن تجعل المهر رمزًا لا عبئًا.

2. التوعية الإعلامية والدينية: من خلال البرامج والمقالات والندوات التي تعزز قيم الزواج الصحيحة.

3. التواصل والحوار: أن يتعلم الشباب والفتيات فنون الحوار، وأن تكون فترة الخطوبة لبناء تفاهم حقيقي، لا لتبادل الصور على المنصات.

4. الاستخدام الرشيد للتكنولوجيا: تحويل السوشيال ميديا إلى وسيلة للتقارب لا للتباعد، عبر وضع ضوابط مشتركة.

5. الدعم الحكومي والمجتمعي: من خلال مؤسسات الزواج الجماعي وصناديق الدعم التي تساعد الشباب على تحمل التكاليف.

6. الاستعداد النفسي: إدراك أن الزواج مسؤولية وتضحية، وأن السعادة لا تأتي إلا بالصبر والاحترام المتبادل.

خاتمة: عبرة وأمل

في النهاية، تبقى الحقيقة أن الزواج ليس عقبة ولا سجنًا، بل هو رحلة ممتعة مليئة بالتحديات والفرص. نعم، غلاء المهور والتكنولوجيا والتعقيدات الاجتماعية كلها تحديات واقعية، لكنها ليست مستحيلة الحل. ما دام هناك إيمان بالله، وتمسك بالقيم، ورغبة صادقة في بناء أسرة، فإن الطريق إلى الزواج سيبقى مفتوحًا.

وعلينا أن نتذكر دائمًا قول النبي ﷺ: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" (رواه مسلم). فالهدف الأسمى ليس حفلة زفاف باهظة، ولا صورًا تُنشر على المنصات، بل بناء بيت تسكنه المودة والرحمة، بيت يظلّل أبناءه بالحب ويحصّنهم من الفتن.

فلنجعل من قصص التعقيد والرفض عبرة لنا، ولنُدرك أن الستر أعظم نعمة، وأن التيسير سبيل إلى البركة. فإذا تكاتف الأهل، وتفاهم الزوجان، واستُخدمت التكنولوجيا بحكمة، سيبقى الزواج منارة أمل، ولبنة أساسية لمجتمع عربي أكثر تماسكًا وعدلًا.

مدار الساعة ـ