أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين رياضة اخبار خفيفة ثقافة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الصحافة.. من المهنية إلى الاستباحة


مالك العثامنة

الصحافة.. من المهنية إلى الاستباحة

مدار الساعة (الغد الأردنية) ـ

في المسرح الكلاسيكي، كان هناك دائمًا ما يُسمى بالحائط الرابع، جدار وهمي يحمي النص والممثل من تدخل الجمهور، ويبقي للعرض هيبته، وللممثل سلطته، وللمشاهد مكانه الطبيعي كمتلقٍ لا شريك في الخشبة.

في الصحافة الورقية القديمة، قبل حقبة وعصر الإنترنت، كان هذا الحائط حاضرًا أيضا، فالصحفي يكتب ويحرر ويمرر نصه عبر غرفة أخبار صارمة، والقارئ ينتظر صباح الغد ليلتقي النص بهيبته، كان هناك جدار يفصل بين المهنة والمتلقي، لكنه جدار يرفع من شأن المهنة ويحميها، وحتى في وجود رقابة ومهما كانت صارمة، فإن التحايل لتمرير النصوص إلى القارئ كانت لعبة ذهنية مذهلة يتواطأ فيها ضمنا الصحفي مع المتلقي لكسب نقاط ضد السلطة والاستبداد.

الصحافة آنذاك كانت أكثر ألقا وأعلى مقامًا، لأنها لم تكن تتشارك المسرح مع أي أحد، كانت وحدها تحت الضوء، وكان الصراع محتدمًا بين الصحفيين "المحترمين طبعا"، لتقديم المادة الأكثر جودة، الأكثر دقة، والأكثر احترامًا لعقل القارئ، وهي المنافسة التي جعلت من أسماء صحفية أيقونات في وجدان الناس، تماما كما كتب غابرييل غارسيا ماركيز: "الصحافة هي أجمل مهنة في العالم"، ولم يقل إنها أكثر مهنة ديمقراطية في العالم، لأن الديمقراطية دون مسؤولية تتحول إلى فوضى، وكان الصحفي يعرف أن سلاحه الوحيد هو كلمته، فلا يملك ترف الخطأ ولا مساحة التضليل.

ثم جاء الإنترنت، وسقط الحائط الرابع، لم يعد المسرح محجوزا لأهل المهنة، صار المتلقي لاعبا، بل منافسا، يكتب، يعلق، يعترض، يطلق العنان لرأيه ولو بلا سند، ومن هنا خرج مصطلح "المواطن الصحفي"، وهو مصطلح أتحفظ عليه لأنه يوهم الناس أن الصحافة مجرد التقاط صورة أو كتابة جملة على فيسبوك، بينما الصحافة هي سياق كامل: تحقق، تدقيق، تحرير، وحس مهني لا يُكتسب إلا بالخبرة والتجربة، ولعل جوزيف بوليتزر، أحد عمالقة الصحافة والذي سميت أرفع جائزة صحافة في العالم باسمه، كان محقا حين قال: "الأمة التي تستخف بصحافتها، تسقط الأمة معها"، وهي جملة تختصر حجم الخطر حين يتساوى العبث مع المهنة.

اليوم، وقد اختلطت الأوراق، وصار الجاهل يزاحم صاحب المعرفة، والصوت العالي يطغى على النص المحترف، وانتهت الحقيقة ضحية للضجيج، ليصبح عدد مرات الإعجاب المسجلة ومؤشرات المشاهدة هو المعيار، لا دقة المعلومة ولا عمق التحليل، فنستعيد كلمات نيتشه: "في زحمة الضجيج، لا يُسمع إلا من يصرخ"، وكأنها وصف دقيق لمسرح مفتوح بلا جدران ولا بوابات، الكل فيه يطالب بالتصفيق، حتى لو ضاعت النصوص الحقيقية وسط الركام.

يبقى السؤال مفتوحا: هل يمكن أن تعود الصحافة إلى موقعها كحارس للمعلومة ومهندس للسرد العام؟ وهل يمكن أن يُعاد بناء الحائط الرابع، ولو بشكل جديد، يحمي المهنة من فوضى التدافع العبثي؟ أم أننا دخلنا زمنا بلا جدران ولا حدود، زمن المسرح المفتوح الذي فقد هيبته، وصار الكل فيه ممثلا والكل فيه ناقدا، بينما الجمهور الحقيقي ضاع بين الشاشات؟

مدار الساعة (الغد الأردنية) ـ