منذ عقود، والعالم يشهد تحوّلات عميقة في أدوات التأثير السياسي. الأحزاب التي شكّلت يومًا أعمدة النظام الديمقراطي لم تعد وحدها اللاعب المركزي، إذ صعدت إلى جانبها جماعات الضغط وحملات كسب التأييد، لتصبح قادرة على صياغة المواقف وفرض الملفات على طاولة القرار. هذه التحولات العالمية كثيرًا ما تُستدعى في النقاش الأردني، غير أن المقارنة المباشرة بين تجربتنا الناشئة وتجارب الغرب المتجذرة لا تنصف الواقع ولا تعكس طبيعة السياق المحلي.
كما شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحوّلًا ملحوظًا في موازين القوى السياسية، حيث تراجع الدور التقليدي للأحزاب أمام صعود جماعات الضغط وحملات كسب التأييد. لم يعد الحزب السياسي وحده هو الممر الحتمي لصناعة القرار أو التأثير فيه، بل برزت قوى اجتماعية واقتصادية وإعلامية منظمة، باتت تملك أدوات الضغط المباشر وغير المباشر على صانع القرار.في فرنسا، على سبيل المثال، لم يكن قرار الاعتراف بدولة فلسطين مجرد موقف حزبي أو نتاج مداولات داخل البرلمان وحده، بل جاء نتيجة ضغوط متراكمة من اتحادات نقابية، ومنظمات مدنية، وحملات إعلامية وشعبية منظمة نجحت في دفع هذا الملف إلى صدارة الأجندة السياسية. هنا نلاحظ أن الحزب، رغم سلطته ومكانته، اضطر إلى التجاوب مع قوة جماعية منظمة فرضت عليه تغيير سلوكه السياسي.في المقابل، يقدّم الموقف الأمريكي من الحرب على غزة نموذجًا آخر لتأثير جماعات الضغط، ولكن في الاتجاه المعاكس. فالفيتو الاخير الذي أسقط مشروع قرار وقف الحرب لم يكن فقط نتاج حسابات استراتيجية للإدارة الأمريكية، بل انعكاس مباشر لثقل جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل داخل المنظومة السياسية الأمريكية، بما تملكه من نفوذ على الكونغرس ومراكز الإعلام والتمويل الانتخابي. بهذا المعنى، فإن جماعات الضغط لا تعمل دائمًا كقوة تصحيحية، حتى ولو تعارض ذلك مع المزاج العام أو المصلحة الإنسانية، بل قد تتحول إلى أداة لتكريس اختلالات عميقة في النظام الدولي.أما في الحالة الأردنية، فإن الحديث عن جماعات الضغط لا يمكن فصله عن طبيعة التجربة الحزبية ذاتها. نحن ما زلنا في مرحلة مبكرة من بناء الحياة الحزبية، حيث سعت الدولة إلى توفير البيئة التشريعية والسياسية التي تتيح للأحزاب أن تتحول إلى أطر تمثيلية حقيقية للمجتمع. بخلاف أوروبا، حيث الأحزاب متجذرة تاريخيًا وتتمتع بامتداد اجتماعي عميق، لم تصل الأحزاب الأردنية بعد إلى مرحلة تمكّنها من أن تكون منصة أولى للتأثير الشعبي. وبالتالي، فإن أي ظهور مبكر لجماعات الضغط في الأردن سيكون بالضرورة محدودًا أو موجهًا نحو الدولة مباشرة، لا عبر الأحزاب.هذه المفارقة تجعل من التجربة الأردنية مختلفة نوعًا ما. ففي أوروبا، جماعات الضغط تُحاور الأحزاب وتضغط عليها لتعديل برامجها أو تغيير مواقفها. أما في الأردن، حيث الأحزاب لا تزال تتشكل وتبحث عن قواعد اجتماعية صلبة، فإن الدولة تبقى العنوان الأساسي لأي ضغط أو مطالبة. من هنا، فإن الطريق ما زال طويلًا قبل أن نصل إلى صيغة توازن شبيهة بما نشهده في التجارب الغربية.إن التراجع العالمي لدور الأحزاب لا ينبغي أن يُقرأ بوصفه إشارة سلبية أو دعوة للتخلي عن التجربة الأردنية الناشئة، بل على العكس تمامًا. هذا الواقع يجب أن يحفزنا على تسريع خطواتنا نحو ترسيخ الأحزاب كركائز للحياة العامة، بحيث تكون قادرة مستقبلًا على التفاعل مع جماعات الضغط، لا أن تُستبدل بها. فالدرس الأهم من التجربة الغربية هو أن قوة المجتمع المدني وحملات كسب التأييد لا تزدهر في الفراغ، وإنما في ظل أحزاب قوية تضطر إلى الاستماع لصوت الشارع.الخلاصة، أن الأردن أمام فرصة لتأسيس نموذج متوازن، يُبقي الأحزاب في قلب العملية السياسية، ويتيح لجماعات الضغط دورًا تكامليًا لا صداميًا. والتحدي الحقيقي يكمن في تحويل الأحزاب من كيانات ناشئة إلى مؤسسات فاعلة، قادرة على أن تكون جسرًا بين مطالب المجتمع وصانع القرار، فلا تضطر جماعات الضغط إلى تجاوزها، ولا تجد الدولة نفسها وحدها في مواجهة كل أشكال المطالب.وهنا تبرز أهمية استثمار الإرادة السياسية العليا التي وضعت مشروع التحديث السياسي في قلب أولويات الدولة. هذه الإرادة تمثل مظلة نادرة في المنطقة، حيث تتبنى القيادة رؤية واضحة لبناء حياة حزبية راسخة لا تقوم على التجريب العابر، بل على تشريعات متدرجة وإرادة تنفيذية حقيقية. إن استثمار هذه الإرادة يتطلب من النخب السياسية والمجتمعية أن تلتقط اللحظة التاريخية، وأن تنخرط بجدية في أحزاب قادرة على التعبير عن المواطنين لا على إعادة إنتاج الهويات الضيقة.إن الفرصة التاريخية التي يقف الأردن أمامها اليوم لا تتكرر كثيرًا. بوجود بيئة تشريعية جديدة، وإرادة سياسية داعمة، ومجتمع شاب متعطش للمشاركة، يمكن للأردن أن يخط مسارًا فريدًا يتمايز عن التجارب الغربية لكنه يتعلم منها. والرهان الحقيقي أن تتحول هذه المرحلة من مجرد مشروع رسمي إلى دينامية مجتمعية أوسع، تجعل من الأحزاب رافعة للتنمية السياسية، وتمنح الأردن نموذجًا يُحتذى به في المنطقة. إنها لحظة تستدعي الإيمان بقدرتنا على البناء، والجرأة في اقتناص الفرصة، والثقة بأن الأردن قادر على صناعة تجربته الخاصة.الحسبان يكتب: الحياة الحزبية في الأردن.. مسار ناشئ يستحق الدعم
مدار الساعة ـ