في قاعة الجمعية العامة، حيث تعلو عادة لغة البروتوكول وحدود المجاملة، اختار جلالة الملك عبدالله الثاني نبرة مختلفة: نبرة تستدعي الضمير قبل السياسة. أمام الدورة الثمانين، لم يكتفِ بعرض الوقائع أو بالصياغات الدبلوماسية المألوفة؛ جعل من كلمته مرآة تعكس مأساة ممتدة وصرخة تحثّ على التحرك.
منذ اللحظة الأولى، رسم الملك مسار كلمته عبر تكرار سؤال تحوّل إلى نداء ضمير عالمي: "متى؟"متى سنطبق المعايير ذاتها على جميع الدول؟متى سنعترف بالفلسطينيين كشعب لديه نفس الطموحات التي نطمح إليها؟متى سندرك أن قيام الدولة الفلسطينية ليس مكافأة، بل حق لا جدال فيه؟بهذه الأسئلة المباشرة حوّل جلالته خطابه إلى محاكمة أخلاقية للأمم المتحدة في عامها الثمانين، تلك المنظمة التي تأسست على رماد الحرب العالمية الثانية لتؤكد الوعد بعدم تكرار مآسي الماضي، لكنها ما تزال عاجزة عن وقف مأساة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ عقود.حملت الكلمة ثلاث رسائل محورية. الأولى: أنّ القوة لم تخلق أمانًا، بل كانت سبباً في حلقة عنف لا نهائي ؛ فالعدو الحقيقي للدمار هو العدالة. الثانية: مساءلةٌ صريحة لازدواجية المعايير، أسئلة هزّت ضمائر الحاضرين. الثالثة: خارطة طريق واضحة تبدأ بوقف دائم لإطلاق النار، وتمهيدًا لوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق وإطلاق جميع الرهائن، وصولًا إلى حل سياسي يقوم على دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية.قوة الخطاب لم تكن في محتواه السياسي فحسب، بل في أسلوبه البلاغي. حول الملك المعاناة الفلسطينية من أرقام وإحصاءات إلى تجربة إنسانية ممتدة عبر الزمن، يصعب على العالم تجاهلها. كما كشف عن عوائق وصول وسائل الإعلام إلى قطاع غزة، مؤكّدًا التناقض بين الخطاب الرسمي في العواصم الغربية والواقع المأساوي تحت الأنقاض.إقليميًا جدد الملك ثوابت الأردن. أكّد أن الوصاية الهاشمية على المقدسات ليست شعارات رمزية، بل خط دفاع أول لحماية الوضع التاريخي والقانوني للقدس ومنع انزلاقها إلى صراع ديني أوسع. وبيّن دور الأردن كمركز فاعل للاستجابة الإنسانية في غزة . كما أبرز جلالته جهود الجيش العربي في توصيل القوافل والطواقم الطبية التي تعمل تحت ظروف صعبة لتأمين الإغاثة للمدنيين، ما يضع المملكة في مقام فاعل لا مجرد مراقب.ورغم قسوة المشهد، التقط الملك خيط أمل في تزايد الأصوات الدولية المطالبة بوقف دائم لإطلاق النار، مشدّدًا على أن الحراك الأخلاقي هذا لا يكفي إلا إذا تبوّأ جسورًا سياسية ملموسة داخل الأمم المتحدة. "الوقت قد حان"، هكذا لخص جلالته الرسالة النهائية: أن يتحوّل الضمير إلى قرار.في ختام الكلمة بدا التصفيق مختلفًا؛ لم يكن مجرد مجاملة بروتوكولية بل اعترافٌ بأن الخطاب تجاوز الحسابات السياسية ليصبح بوصلة أخلاقية في زمن يزداد اضطراباً. بلسان الأردن، واجه الملك ازدواجية المعايير وأعاد تعريف السلام كثمار للعدالة، مؤكّدًا أن كرامة الفلسطينيين وحقّهم في دولتهم هما طريق إنهاء صراع طال أمده.هذا الخطاب ليس محطة عابرة في نيويورك، بل لحظة تُسجّل في ذاكرة الأمم المتحدة؛ لحظة ارتفعت فيها لغة الإنسانية فوق حسابات المصالح.الزيود يكتب: لغة الإنسانية لجلالة الملك تعلو على السياسة
مدار الساعة ـ