أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: مسقط.. فلسفة الانتماء ومرآة الحنين


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: مسقط.. فلسفة الانتماء ومرآة الحنين

مدار الساعة ـ

ليست المدن كلها متشابهة؛ فبعضها يمرّ في حياتك كظلّ عابر، فيما أخرى تترك أثرًا عميقًا يستقر في داخلك، يرافقك أينما ذهبت. ومسقط واحدة من تلك المدن التي لا تُزار لمرة واحدة، بل تُسكن وتُعاش، مدينة تُعيد تعريف الغربة لتجعلها أكثر دفئًا، وتحوّل الانتظار إلى رحلة سلام داخلي.

منذ سنوات وأنا أجد في مسقط معنىً خاصًا للانتماء؛ فهي تفتح أبوابها بلا حواجز، وتستقبلك كما لو كنت ابنًا من أبنائها. هنا، تتجلى روح العروبة الحقيقية، في كرم الضيافة، في بساطة العلاقات، وفي نقاء البحر الذي يشبه صفاء النفوس. كل زاوية في مسقط تحكي حكاية جمال مختلف، وكل وجه يذكّرك أن القلب العربي واحد، وإن فرّقته الحدود.

أحببت مسقط لأنها لا تُشبه المدن العادية؛ بل تُشبه فلسفة خاصة في الحياة: أن تشعر أنك في بيتك أينما وجدت القلوب التي تُحبك. هي هنا تزرع فيك الطمأنينة، وهناك تُذكّرك بأن لك وطنًا تنتظره. إنها مساحة وجودية تعلمك أن الوطن ليس مكانًا فقط، بل حالة شعورية يمكن أن تتجدد في مدن أخرى تشبهك، دون أن تُلغي جذورك الأولى.

ومع ذلك، يبقى الحنين للأردن حاضرًا لا يغيب. فكلما امتلأ قلبي بدفء مسقط، اشتعل داخلي شوقٌ صامت لعمان؛ إلى حضن الوطن الأول، إلى الشوارع التي تحمل ذاكرتي، إلى الأرض التي غرست فينا معنى الهوية والصمود. وهنا يكمن عمق التجربة: أن مسقط منحتني وطنًا ثانيًا، لكنها في الوقت نفسه زادت شوقي إلى وطني الأول. كأنها تقول لي: "الوفاء لا يتجزأ، والحب حين يكبر هنا، يكبر هناك أيضًا".

وفي لحظة تأمل، أدركت أن الانتماء الحقيقي هو أن تكون قادرًا على أن تحب مكانين في وقت واحد، أن تجد نفسك في الغربة، وفي الوقت ذاته تُعيد اكتشاف جذورك. مسقط لم تُنسني الأردن، بل جعلتني أراه بعيون جديدة، أكثر حبًا، وأكثر وفاءً.

ولا يمكن أن أكتب عن هذه التجربة دون أن أذكر جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي علّمنا أن الإنسان الأردني سفير لأمته أينما حلّ، وأن الانفتاح على العالم قيمة تليق بنا جميعًا. كما أذكر سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، الذي يمثل الأمل المتجدد والجيل الواعد، ليكون حاضرًا معنا هناك وهنا، في كل حلم وشغف.

مسقط ليست مجرد مدينة عابرة في ذاكرتي، بل هي مرآة فلسفية تكشف لي أن الحنين قوة، وأن الشوق وطن آخر يسكن القلب. هنا في مسقط أعيش دفء الروح، وهناك في الأردن يسكنني نبض الحياة. وبين هنا وهناك، يتجلى المعنى الأعمق: أن بعض المدن تمنحك هوية جديدة، لكنها في الوقت نفسه تُذكّرك أن الأصل هو الذي يمنحك المعنى الكامل للوجود.

مدار الساعة ـ