لطالما اعتمدت إسرائيل، منذ نشأتها، على دعم غربي صلب، متجذر في اعتبارات تاريخية وسياسية معقدة. لكن العدوان واسع النطاق على قطاع غزة الذي بدأ في أكتوبر 2023، وما صاحبه من إبادة، قد هزّ هذا الدعم إلى مستويات غير مسبوقة، ليخلق تحولاً عميقاً في الشارع الغربي.
بدأ تأثيره يترجم على مستوى الحكومات والسياسات هذا التحول لم يكن ليتم بهذه السرعة لولا الدور الحاسم الذي لعبته منصات التواصل الاجتماعي في كسر الاحتكار الإعلامي للسردية التقليدية.في البداية، جاءت ردود الفعل الغربية، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، متطابقة تقريباً مع الموقف الإسرائيلي، مؤكدة على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وداعية إلى الوقوف بقوة خلف عملياتها العسكرية. ولكن مع تصاعد وتيرة القتل والتدمير غير المسبوقين، وسياسات التجويع والحصار التي طالت المدنيين في غزة، بدأت الأصوات المعارضة والمناوئة تتزايد بشكل مطرد داخل الدول الغربية نفسها.التحول في الموقف الأوروبي كان لافتاً؛ فبعد أشهر من الانحياز، بدأت دول رئيسة مثل فرنسا والمملكة المتحدة، وحتى ألمانيا - التي لديها حساسية تاريخية عميقة تجاه إسرائيل- ترفع من حدة انتقاداتها للسياسات الإسرائيلية. اتخذت هذه الدول إلى جانب دول اخرى مثل إسبانيا، وإيرلندا، والنرويج وسلوفينيا، خطوات دبلوماسية أجرأ تمثلت في الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، وهو ما عكس تآكلاً للغطاء الذي منحه الغرب لإسرائيل. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، شهد قرار المطالبة بوقف إطلاق نار إنساني قفزة كبيرة في عدد الأصوات المؤيدة، بما في ذلك دول غربية حليفة لواشنطن وتل أبيب، مما شكل مفاجأة للمراقبين ودليلاً على تراجع التأييد الدولي.هذا التغيير الرسمي لم يكن معزولاً، بل هو انعكاس وتتويج لغليان شعبي غير مسبوق. فمظاهرات الدعم لفلسطين في العواصم الأوروبية الكبرى، مثل لندن وبرلين وباريس، فاقت في حجمها واستمراريتها أي حراك سابق. الحراك الشعبي، الذي طال مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية، شكّل ضغطاً متزايداً على الحكومات، وأظهر استطلاع رأي في دول أوروبية رئيسة أن نسبة كبيرة من المواطنين يرون أن إسرائيل بالغت في ردها وتسببت في سقوط ضحايا مدنيين، وأن بعضهم يرى أنه ما كان ينبغي لها دخول القطاع أصلاً. إن مشاهد الإبادة وما يُعتقد أنها جرائم حرب وثقتها الكاميرات على مدار الساعة، أيقظت الضمير الأوروبي وأجبرته على مواجهة السردية الإسرائيلية القديمة.السوشيال ميديا ساحة المعركة التي خسرتها اسرائيلفي قلب هذا التحول، يبرز دور منصات التواصل الاجتماعي بوصفه القوة الدافعة والمحرك الرئيسي. فإذا كانت الحكومات ووسائل الإعلام التقليدية في الغرب قد تبنت في البداية الرواية الإسرائيلية، فإن "السوشيال ميديا" تحولت إلى ساحة معركة لا تخضع للرقابة الحكومية أو التحرير التقليدي. كسر الاحتكار السردي مكنت المنصات الرقمية (تيك توك، إنستغرام، إكس، وغيرها) النشطاء والصحفيين الفلسطينيين والعرب والغربيين المتعاطفين، من نقل الحقيقة مباشرة وبالصوت والصورة، متجاوزين حواجز وسائل الإعلام التقليدية. مشاهد القصف، وموت الأطفال، والمجاعة، والنازحين، وتدمير الأحياء السكنية، وصلت إلى ملايين الهواتف في الغرب في الوقت الحقيقي، فكانت بمثابة دليل مادي مباشر لا يمكن دحضه بالبيانات الصحفية أو الروايات الرسمية. ولعبت مقاطع الفيديو والصور التي التقطت على الأرض دوراً حاسماً في توثيق ما يشتبه أنها جرائم حرب، لدرجة أن بعضها استُخدم كأدلة استعانت بها جنوب أفريقيا في دعواها أمام محكمة العدل الدولية. كما ساهم المؤثرون والمتضامنون مع القضية الفلسطينية، من مختلف الخلفيات، في نقل الرواية الفلسطينية بأسلوب مؤثر ومباشر، محولين المشهد الرقمي إلى ساحة دعم ومساندة للفلسطينيين على نطاق واسع، ومحدثين تغييرات كبيرة في الرأي العام العالمي.أمام هذا المد الجارف من الرأي العام المتغير، أدركت الحكومة الإسرائيلية أنها تخسر المعركة الدعائية بشكل فادح. فالدعاية الإسرائيلية، التي اعتمدت في البداية على "مظلومية" ما بعد السابع من أكتوبر، بدأت تفقد مصداقيتها كلما استمرت الحرب وتزايدت حصيلة الضحايا المدنيين.في محاولة يائسة لاستعادة السيطرة على السردية العالمية، تشير تقارير إخبارية إلى أن إسرائيل ضخت مبالغ طائلة في حملات "بروباغندا" ضخمة. فمثلاً، وقعت الحكومة الإسرائيلية عقوداً بملايين الدولارات مع عمالقة رقميين مثل جوجل ويوتيوب، بهدف نشر دعايات سياسية موالية لها، والترويج لصورة إسرائيل كمركز للتكنولوجيا والثقافة والحداثة، وتجنب التركيز على مواضيع الاحتلال والدين. بعض التقارير تحدثت عن ميزانية بلغت ملايين الشواكل مخصصة تحديداً لهذه الحملات الدعائية.ومع ذلك، فشلت هذه الجهود الدعائية، رغم ضخامة ميزانيتها، في تحقيق أهدافها. والسبب بسيط: ففي عصر السوشيال ميديا، لا يمكن لـ "دعاية مدفوعة" (Paid Propaganda) أن تصمد أمام الحقيقة غير المرشحة التي تُبث مجاناً ومباشرة من الهواتف الذكية على الأرض. لا يمكن لصور "إسرائيل المبتكرة" أن تمحو صور الأطفال القتلى والمستشفيات المدمرة. لقد أثبتت هذه الأزمة أن قوة المشهد الحقيقي، الذي يوثقه المواطن العادي على السوشيال ميديا، تفوق بكثير قوة الميزانيات الحكومية الضخمة المخصصة لـ "تبييض الصورة".خاتمةإن استدارة الغرب عن دعم إسرائيل، على المستوى الشعبي ثم الحكومي، هي نتيجة مباشرة للارتباط المأساوي بين وقائع "الإبادة" المنقولة لحظة بلحظة، وقوة السوشيال ميديا التي حولت المواطن الغربي من متلقٍّ سلبي للمعلومات إلى شاهد عيان متأثر ومحرك للرأي العام. لقد كشفت هذه المعركة الإعلامية الحديثة زيف السردية الإسرائيلية التي استمرت لعقود، وأثبتت أن محاولات نتنياهو لدفع الملايين في سبيل "تبييض الصورة" كانت مجرد محاولة خاسرة لشراء ما لم يعد للبيع في السوق الرقمية: المصداقية والتعاطف الإنساني. إن "الرواية الفلسطينية" اليوم، وبفعل السوشيال ميديا، وصلت إلى كل بيت غربي، وهو ما يمثل هزيمة دعائية تاريخية للاحتلال، ودفعة قوية نحو تغيير سياسي يفرض نفسه على عواصم العالم.العرسان يكتب: كيف خسر الاحتلال الإسرائيلي معركة السوشيال ميديا
محمد العرسان
إعلامي أردني
إعلامي أردني
مدار الساعة ـ