تحتل المؤشرات العالمية مكانة محورية في تشكيل استراتيجيات الدول ورسم رؤاها المستقبلية، إذ لا تُستخدم باعتبارها مجرد أدوات للقياس أو لتحديد ترتيب الدول على السلم الدولي، بل بوصفها مرآة تكشف عن الفجوات الهيكلية وتحدد أولويات الإصلاح. فعملية تفكيك الأداء الحكومي عبر الأبعاد الرئيسة لهذه المؤشرات تمكّن الحكومات من رؤية أكثر عمقًا لمواضع القوة والضعف، سواء تعلق الأمر بصلابة المالية العامة، أو جودة الإطار المؤسسي، أو ديناميكية سوق العمل، أو جاهزية البنية التكنولوجية. هذا التشريح الدقيق يمنح صانعي القرار القدرة على تصميم واختيار السياسات الأكثر تأثيرًا بدل الاكتفاء بمبادرات متفرقة أو متجزأة، وهو ما أكدته الدراسات التي ربطت بين قراءة المؤشرات وصياغة السياسات عالية الأثر.
ولا تتوقف فائدة هذه المؤشرات عند التشخيص الداخلي، بل تمتد إلى توفير أدوات للمقارنة المعيارية مع دول مختارة، سواء كانت مرجعية عالمية أو إقليمية أو مشابهة في الحجم والطموح. ومن خلال هذه المقارنة، يتحول المؤشر إلى خريطة طريق تسهّل على الدولة تحديد المجالات التي تتفوق فيها وتلك التي تتأخر عنها، مع الاستفادة من الدروس التي استخلصتها الدول الأخرى في تحسين نتائجها. وتكشف الأدبيات الأكاديمية أن لهذه المؤشرات بعدًا آخر يتجاوز الترتيب، حيث ترتبط فكرة “التنافسية الأساسية” (Foundational Competitiveness) بجودة بيئة الأعمال وسياسات الحكومة وممارسات القطاع الخاص، أي أن إصلاحات الحوكمة واللوائح والمهارات والبنية التحتية تُترجم مباشرة إلى مكاسب في الإنتاجية وارتفاع مستوى الدخل للفرد.كما أن لهذه المؤشرات وظيفة إرشادية كبرى تتمثل في كونها بوصلة لتطوير القدرات الحكومية. فبحسب دراسات اكاديمية تُعتبر المؤشرات إطارًا يساعد الحكومات على تحديد القدرات المطلوب بناؤها داخليًا، سواء في مجال تحليل السياسات أو إدارة المواهب أو تطوير البنية المؤسسية، بما يجعلها أدوات إصلاحية شاملة لا مجرد أرقام تعكس الواقع، لذلك يُوصى باستخدام هذه المؤشرات كلوحة قيادة استراتيجية تسهّل فهم المسارات الكبرى للإصلاح، لا كأهداف شكلية يتم السعي إليها دون مضمون.ومن الناحية العملية، توفر الجهات المصدرة للتقارير العالمية نموذجًا واضحًا لكيفية ترجمة المؤشرات إلى استراتيجيات قابلة للتنفيذ. إذ يمكن رسم خريطة ربط بين محاوره وأولويات الحكومة: فـ"كفاءة الحكومة" ترتبط بالاستدامة المالية وجودة التشريعات وفعالية المؤسسات؛ و"البنية التحتية" تتصل بالتعليم والصحة والبيئة والجاهزية الرقمية؛ بينما تعكس "كفاءة الأعمال" إنتاجية الشركات وسوق العمل والتمويل والقيادة المؤسسية؛ في حين يغطي "الأداء الاقتصادي" محاور التجارة والاستثمار والوظائف والأسعار. هذه الخريطة تسهّل على الحكومات تحديد برامج إصلاحية محددة، كإصلاحات تشريعية، وتسريع التحول الرقمي للخدمات، وتبني سياسات للتحول الحكومي الشامل، مما يسمح باستخراج الفجوات الأكثر تأثيرًا ومعالجتها بخطط دقيقة. ويأتي بعد ذلك تحويل الفجوات إلى رافعات سياسات محددة، مثل حزم إصلاح الشفافية ومكافحة تعارض المصالح، أو تحديث المناهج التعليمية وربطها بمتطلبات سوق العمل، أو الاستثمار في البنية الرقمية والسحابة الحكومية والأمن السيبراني، مع ربط كل رافعة بالمؤشرات ذات الصلة لقياس أثر الإصلاح قبل التنفيذ وبعده.وتتطلب هذه العملية نظام متابعة فعالًا، تختار من خلالها الحكومة مجموعة من المؤشرات التي تقع تحت سيطرتها المباشرة، وتحدد لها أهدافًا كمية سنوية قابلة للقياس، مع ربطها بمسؤوليات واضحة وتمويل محدد وتكون ضمن مؤشرات أداء الحكومة ككل .ولا يمكن تجاهل البعد المستقبلي لهذه المؤشرات، حيث تركز الإصدارات الحديثة على قضايا جديدة مثل الجاهزية الرقمية والتحول الأخضر والمرونة الاقتصادية، وهي عناصر باتت ضرورية لإدماجها في الاستراتيجيات الحكومية عبر تشريعات الاقتصاد الرقمي، وآليات أسواق الكربون، وإدارة مخاطر الذكاء الاصطناعي، وتأمين سلاسل الإمداد.وتؤكد التجارب الدولية، التي وثقتها تقارير مثل تلك الصادرة عن البنك الدولي أو الدوريات المتخصصة في التنافسية الحضرية، أن تحويل نتائج المؤشرات إلى إصلاحات مؤسسية وإدارية يعزز أداء القطاع العام ويمكّنه من الاستجابة للتحديات بكفاءة. وبذلك تصبح المؤشرات العالمية أكثر من مجرد تقييم خارجي، إذ تتحول إلى أداة عملية لإعادة تشكيل السياسات العامة وبناء قدرات الدولة على أسس أكثر صلابة واستدامة.الصرايرة يكتب: لماذا تُفيد المؤشرات العالمية في بناء الرؤى والاستراتيجيات الحكومية؟
الدكتور بشار الصرايرة
الصرايرة يكتب: لماذا تُفيد المؤشرات العالمية في بناء الرؤى والاستراتيجيات الحكومية؟
مدار الساعة ـ