أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الركيبات تكتب: نظام الأرض في الميزان.. تحليل علوم الحوكمة والاستجابة السياسية للأردن في عصر الأخطار الكوكبية


الدكتورة رشا الركيبات
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض

الركيبات تكتب: نظام الأرض في الميزان.. تحليل علوم الحوكمة والاستجابة السياسية للأردن في عصر الأخطار الكوكبية

الدكتورة رشا الركيبات
الدكتورة رشا الركيبات
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض
مدار الساعة ـ

من النموذج الكوني القديم إلى حوكمة الأنثروبوسين

لم يعد التحدي البيئي المعاصر مجرد مجموعة من القضايا المحلية المنفصلة، بل تحول إلى أزمة تهدد استقرار الأنظمة الكوكبية التي تدعم الحياة البشرية. يستلزم هذا التحول إطاراً علمياً وسياسياً شاملاً يُعرف بـ "نظام الأرض". يمثل هذا التحول اعترافاً بالخروج عن الفهم التقليدي للعالم، الذي كان سائداً في حقب تاريخية طويلة. ففي الحضارات القديمة، بما في ذلك اليونان، والعصر البطلمي، والحضارة الإسلامية المبكرة، ساد نموذج مركزية الأرض (Geocentric Model)، حيث كانت الأرض مركز الكون. اليوم، وفي ظل عصر الأنثروبوسين (العصر البشري)، اعترف المجتمع العلمي بالهشاشة الكوكبية التي نتجت عن النشاط البشري، مما يتطلب الانتقال من الأطر الفكرية القديمة إلى إطار عمل جديد يربط بين الأخطار الكوكبية العابرة للحدود والاستجابات الوطنية الفعالة، خاصة في دول مثل الأردن التي تواجه شحاً حاداً في الموارد.

يهدف هذا المقال إلى تحليل الأسس العلمية لاستقرار نظام الأرض والمخاطر التي تهدده، واستعراض الإطار العالمي لحوكمة نظام الأرض، وصولاً إلى فحص الاستراتيجيات والسياسات الوطنية المتبعة في المملكة الأردنية الهاشمية في مواجهة تحديات المناخ والمياه المستعصية.

1: الأسس العلمية لأزمة النظام الكوكبي (العلوم)

1.1 بنية نظام الأرض وتفاعلات الأغلفة الأربعة

تُفهم الأرض اليوم كوحدة ديناميكية متكاملة، حيث تتكون من أربعة أغلفة رئيسية مترابطة ومتفاعلة تُشكل معاً نظام الأرض. إن فهم هذه التفاعلات يمثل الأساس لعلم الأنظمة، ويسلط الضوء على كيف يؤدي تغيير في غلاف واحد إلى سلسلة من الآثار على استقرار الأغلفة الأخرى.

هذه الأغلفة هي: الغلاف الجوي (Atmosphere)، وهو طبقة الغازات التي تحيط بالكوكب وتشمل غازات الدفيئة التي تحدد المناخ؛ والغلاف المائي (Hydrosphere)، الذي يشمل كل أشكال المياه السطحية والجوفية، ويعد حيوياً لحياة النباتات والحيوانات؛ والغلاف الصخري (Geosphere)، الذي يوفر التربة والموائل، فمثلاً، تنمو النباتات في التربة كجزء من الغلاف الصخري؛ والغلاف الحيوي (Biosphere)، الذي يضم جميع أشكال الحياة. تتجسد التفاعلات في قيام النباتات (الغلاف الحيوي) بأخذ ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي لعملية التمثيل الضوئي، بينما تحتاج الحيوانات (الغلاف الحيوي) إلى الأكسجين من الغلاف الجوي والماء من الغلاف المائي. إن الحفاظ على هذا التوازن المعقد بين الغلاف الصخري، والمائي، والجوي، والحيوي أمر بالغ الأهمية لاستمرار الحياة وصحة كوكبنا.

2.1 خطر نقاط التحول المناخي (Tipping Points)

إن التحدي الأكبر الذي يواجه نظام الأرض ليس التغير المناخي التدريجي، بل احتمال القفز المفاجئ عبر "نقاط التحول" (Tipping Points). تُعرف نقطة التحول بأنها العتبة الحرجة التي يؤدي تجاوزها إلى تغييرات كبيرة وغير متوقعة، والتي غالباً ما تكون دائمة ولا رجعة فيها، في حالة النظام.

تتعدد الأمثلة على العناصر التحولية، سواء في نظام المناخ المادي أو في النظام البيئي المتأثر:

1. في الغطاء الجليدي: قد يتسبب ذوبان جزء كبير من الغطاء الجليدي في جرينلاند أو الصفائح الجليدية في القطب الجنوبي الغربي في ارتفاع مستوى سطح البحر بعشرات الأمتار. ورغم أن هذا التغير قد يستمر لقرون، إلا أنه يصبح أمراً لا مفر منه بمجرد تجاوز عتبة معينة لارتفاع درجة الحرارة.

2. انهيار الأنظمة البيئية: بعض عناصر التحول هي انهيار الأنظمة البيئية الرئيسية، مثل الغابات المطيرة أو الشعاب المرجانية، والتي تعد دائمة ولا رجعة فيها.

التغذية الراجعة ذاتية التعزيز: يشكل هذا التغير إلحاحاً غير خطي للمخاطر، حيث تدفع التغذية الراجعة من دورة الكربون الكوكب نحو حالة "مناخ الدفيئة" (Greenhouse Climate). وتتنبأ دراسة اجراها تابيو شنايدر (Tapio Schneider) ونُشرت في 2019، بأن وصول الغازات الدفيئة إلى ثلاثة أضعاف مستوى ثاني أكسيد الكربون الحالي يمكن أن يؤدي إلى تفكك مفاجئ لسحابة الطبقة الجوية (Stratocumulus Cloud Deconstruction)، مما يساهم في ارتفاع إضافي حاد لدرجات الحرارة بمقدار 8 درجات مئوية.

يشير تقرير التقييم الخامس للجنة الدولية للتغيرات المناخية إلى أن الخطر المرتبط بعبور نقاط التحول المتعددة يزداد بازدياد درجة الحرارة. هذا يعني أن السياسات الوطنية والإقليمية، مثل تلك التي يتبناها الأردن، لا يمكن أن تكتفي بالتخطيط التقليدي لمتوسط درجات الحرارة، بل يجب أن تتبنى استراتيجيات "توقعية" (Anticipatory) تتضمن حداً أدنى من "المرونة الفائقة" (Super-Resilience) للتصدي لسيناريوهات "أسوأ الاحتمالات" غير الخطية.

2: حوكمة نظام الأرض (ESG): إطار العمل من أجل مستقبل مستدام وعادل (السياسات العالمية)

1.2 مفهوم حوكمة نظام الأرض وإطارها النظري

حوكمة نظام الأرض (Earth System Governance - ESG) هي الإطار البحثي والسياسي المصمم لمواجهة التحديات الكوكبية. تتمثل مهمتها في فهم، وتخيل، والمساعدة في تحقيق مستقبل عادل ومستدام. هذا الإطار مصمم لتشجيع مجتمع بحثي حيوي ومتعدد التخصصات، ويهدف بشكل أساسي إلى سد الفجوة بين المعرفة العلمية ومتطلبات التنفيذ السياسي، وذلك من خلال تقديم المشورة والإرشاد في واجهة العلوم والسياسة.

2.2 محاور العمل الخمسة للحوكمة

يوفر الإطار البحثي لـ ESG، المستمد من خطة العلوم والتطبيق لعام 2018، خمس عدسات منهجية لتحليل وتقييم الاستجابات الوطنية للتحديات البيئية.

1. التكيف والانعكاس (Adaptiveness & Reflexivity): يركز هذا المحور على كيفية قدرة المجتمعات على إدارة التغيير والوصول إلى الاستدامة العالمية. يشمل ذلك مفاهيم المرونة والتكيف والقدرة على التعلم الاجتماعي. أما الانعكاس، فيشير إلى قدرة المؤسسات والفاعلين على تقييم أدائهم الذاتي (خاصة آثارهم البيئية) وإعادة صياغة أهدافهم وقيمهم للمضي قدماً بحكمة في الأنظمة البشرية-البيئية المعقدة.

2. التوقع والتخيل (Anticipation & Imagination): يغطي هذا المحور العمليات المتزايدة لتوقع وتخيل المستقبل المستدام، من خلال استخدام النمذجة، والتقييمات المتكاملة، وبناء السيناريوهات. ويشدد هذا المحور على ضرورة حوكمة عمليات التوقع نفسها، والتحقق من كيفية تحول التوقع إلى موقع للقوة والسياسة.

3. البنية والفاعلية (Architecture & Agency): يختص هذا المحور بفهم الأطر المؤسسية والفاعلين المشاركين في حوكمة نظام الأرض، وكيفية استجابتها للتغيير وتطورها. إن الجمع بين البنية (Institutional Frameworks) والفاعلية (Agency - دور الأفراد والمؤسسات) يوفر فرصاً جديدة لفهم ديناميكيات التغيير في أنظمة الحوكمة. في سياق الأردن، الذي يواجه تحديات تنسيق بين أصحاب العلاقة على نطاقات جغرافية متعددة لتحقيق التنمية المستدامة، فإن أي قصور في الفاعلية الإدارية يعيق تنفيذ خطط التكيف والتخفيف.

4. الديمقراطية والقوة (Democracy & Power): يتناول هذا المحور كيفية تأثير التكوينات الجديدة للقوة على الديمقراطية. ويدرس كيف يمكن لمفاهيم الديمقراطية والقوة الممتدة خارج نطاق المؤسسات السياسية التقليدية (كالمصالح التجارية والخطابات المهيمنة) أن تشكل أنماط الإنتاج والاستهلاك، وبالتالي تؤثر على التغير البيئي العالمي.

5. العدالة والتخصيص (Justice & Allocation): يركز هذا المحور على قضايا العدالة وتخصيص الموارد، التي أصبحت محورية بسبب تزايد التفاوتات. هناك حاجة ملحة للتحقيق المنهجي والفلسفي في العدالة ومتطلباتها الأساسية المتعلقة بالتخصيص، خاصة وأن الحكومات والمنظمات الدولية تقوم بصياغة الأهداف وتحديد الأولويات لمعالجة هذه القضايا. يُعد هذا المحور بالغ الأهمية للأردن، حيث إن تخصيص الموارد المائية النادرة وتوزيع الفوائد الناتجة عن التحول الأخضر يشكل شرطاً مسبقاً لتحقيق التنمية المستدامة. بالرغم من أن الوثائق البحثية لا تذكر العلاقة الصريحة بين المحاور الخمسة وأهداف التنمية المستدامة (SDGs)، فإن محوري "العدالة والتخصيص" و"التكيف" يمثلان العمود الفقري لتحقيق الأمن المائي والغذائي، وهما هدفان أساسيان في خطة 2030.

3: الأردن كـ "نقطة ساخنة" في نظام الأرض

1.3 السياق الوطني للهشاشة والتحديات المزدوجة

يُعد الأردن، الذي تبلغ مساحته حوالي 89213 كيلومتراً مربعاً، بلدًا صغيرًا نسبياً في منطقة الشرق الأوسط، لكنه يتمتع بتضاريس ونسق طبيعية متنوعة. هذه التضاريس، مع التقسيم الإداري المعقد إلى اثنتي عشرة محافظة وألوية وأقضية، تفرض تحديات كبيرة في التنسيق بين كافة أصحاب العلاقة على نطاقات جغرافية متعددة لتحقيق تنمية منيعة للتغيرات المناخية ومنخفضة الكربون.

2.3 أزمة ندرة المياه: تجاوز خط الفقر المائي المطلق

تتعرض الموارد المائية في الأردن لتهديد غير مسبوق، الأمر الذي يتطلب تضافر جهود الحكومة، ومؤسسات قطاع المياه، ومستخدمي المياه والقطاع الخاص، والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني لضمان ديمومة الأمن المائي.

ويواجه الأردن أزمة مائية كارثية تفاقمت بسبب عوامل طبيعية وبشرية. فمن الناحية الطبيعية، تشمل الأسباب محدودية موارد المياه الجوفية، وتناقص مصادر المياه السطحية، وتأثير تغير المناخ المتمثل في ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة التبخر، والقحط، والفيضانات. أما العوامل البشرية والديموغرافية، فتشمل النمو السكاني السريع، والاستخدام المفرط والمستنزف للمياه الجوفية، والاعتماد المستمر على المياه المشتركة مع دول الجوار. وقد أدت هذه العوامل إلى تناقص حصة الفرد السنوية من المياه العذبة المتجددة إلى 61 متراً مكعباً فقط، وهو مستوى أدنى بكثير من خط الفقر المائي المطلق المتعارف عليه دولياً والمقدر بـ 500 متر مكعب للفرد في العام. هذا المستوى لا يشير إلى الفقر المائي فحسب، بل إلى انهيار شبه كامل للمرونة المائية، مما يهدد الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي.

3.3 التدهور البيئي وغياب الإحصائيات الحديثة

يواجه الأردن تحدي التصحر المتفاقم، حيث تشير بيانات عام 2015 إلى أن 91% من أراضي المملكة مهددة بالتصحر. وعلى الرغم من ضخامة التحدي، تُظهر البيانات الحكومية قصوراً في الجانب العلمي التطبيقي: تفتقر وزارة البيئة إلى إحصائيات حديثة توضح نسب التصحر وتكلفة التدهور البيئي. وتُقدر الكلفة الاقتصادية لهذه التحديات مجتمعة بما يقارب 9 مليارات دولار سنوياً، وهي كلفة ضخمة تتجاوز قدرة الميزانية على الاستيعاب.

إن غياب الإحصائيات المحدثة يمثل قصوراً في محور "البنية والفاعلية" (Architecture & Agency) في حوكمة نظام الأرض على المستوى الوطني. لا يمكن للحكومة أن تضع وتُعزز إستراتيجيات مكافحة التصحر، وتطبق النظم الزراعية المستدامة، وتصل إلى "السياسات المرتكزة على الأسس العلمية"، إذا كانت البيانات الأساسية مفقودة أو قديمة. ويستلزم هذا تحولاً إدارياً لتمكين آلية صنع القرار المبني على البيانات، وتوفير التمويل لجرد محتوى الكربون وتحديث بيانات التدهور البيئي، لتحويل هذا التهديد الكبير إلى فرص للتوقع والتخطيط الاستراتيجي.

4: الاستراتيجيات الوطنية الأردنية 2050: التكيف والتخفيف كأركان للحوكمة

1.4 الرؤية الوطنية لحيادية الكربون والمرونة (2022-2050)

تضع السياسة الوطنية للتغير المناخي في الأردن للأعوام 2022-2050 رؤية طموحة، تسعى إلى جعل الأردن أكثر استعداداً ومرونة لتأثيرات التغير المناخي بحلول عام 2050. وتهدف الرؤية إلى تحقيق مستوى عالٍ من أمن الطاقة ووضعه على مسار مستدام نحو حيادية الكربون بحلول منتصف القرن الحالي، وهي عملية تتطلب تحقيق التوازن بين انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشرية المنشأ وعمليات إزالته من الغلاف الجوي.

ويرتكز هذا التحول على مبادئ العدالة والإندماج المجتمعي، حيث تسعى الاستثمارات في المبادرات منخفضة الكربون إلى تعزيز الاقتصاد الأخضر لما فيه خير المجتمع، بما في ذلك المجتمعات الهشة. ويهدف الهدف العام طويل الأمد إلى الدفع بالتنمية الوطنية وتحصين كافة القطاعات من آثار التغيرات المناخية الحالية والمستقبلية.

2.4 سياسات وإجراءات التكيف (Adaptation)

في ضوء هشاشة الأردن المناخية والجفاف، تتركز سياسات التكيف على القطاعات الأكثر عرضة للخطر:

• قطاع المياه (1AC): تشمل الإجراءات تعزيز كفاءة الري ونظم التزويد للحد من تسرب المياه في المدى القصير، وزيادة استخدام المياه المستعملة المعالجة في الري والاستخدامات الصناعية (وهو أمر حيوي نظراً لشح الموارد المتجددة). على المدى الطويل، يتم التركيز على زيادة إمدادات المياه غير التقليدية، مثل تحلية المياه، إضافة إلى بناء آبار حصاد المياه على مختلف المستويات وتطوير خطط إدارة مخاطر الفيضانات.

• قطاع الزراعة والأمن الغذائي (2AC): يتمثل التكيف هنا في تبني تقنيات الزراعة الموفرة للمياه كالري بالتنقيط، والتوسع في استخدام الأصناف الزراعية والحيوانية المتحملة للجفاف والملوحة والحرارة.

• قطاع التنوع الحيوي (3AC): يشمل دمج التكيف القائم على النظام البيئي (EbA) وحماية الموائل والنظم البيئية الرئيسية، مثل الأراضي الرطبة والمناطق الساحلية.

3.4 تدابير التخفيف (Mitigation)

تهدف تدابير التخفيف إلى تقليل الانبعاثات وتحقيق هدف حيادية الكربون:

• قطاع الطاقة (1MM): يتمثل العمل في الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة (الرياح والشمس) لزيادة حصتها في مزيج الطاقة، وتطوير تقنيات كفاءة الطاقة، وتشجيع استخدام السيارات الكهربائية والهجينة.

• قطاع النفايات (4MM): يشمل ذلك تطبيق استراتيجية وطنية لإدارة النفايات الصلبة تركز على التدوير واستعادة الطاقة، واستخدام الغاز الحيوي المتولد من مدافن النفايات لتوليد الطاقة.

• قطاع الزراعة والغابات (5MM): يركز على تعزيز ممارسات الزراعة المراعية للمناخ التي تزيد من عزل الكربون في التربة، والتوسع في مشاريع التشجير وإدارة الغابات بشكل مستدام.

4.4 تحدي الترابط بين التكيف والتخفيف (The Nexus)

على الرغم من تكامل السياسات، يواجه الأردن تحدياً في الربط بين التكيف والتخفيف. فمثلاً، يعد التوسع في المياه غير التقليدية (التحلية) حلاً حيوياً للتكيف مع ندرة المياه. لكن عملية التحلية تتطلب طاقة هائلة، مما قد يزيد من الانبعاثات الكربونية إذا لم يتم توفير هذه الطاقة بالكامل من مصادر متجددة. لذلك، لضمان أن التكيف المائي لا يقوض هدف حيادية الكربون 2050، يجب أن يكون هناك دمج كامل ومخطط له لرأس المال بين سياسات الطاقة والمياه، بما يضمن تشغيل مشاريع التحلية العملاقة، مثل الناقل الوطني، بالاعتماد على الطاقة النظيفة (الاستثمار في 1.1MM يخدم 1.5AC). هذا يمثل تحدياً في "التخصيص" (Allocation) يتطلب تخطيطاً مالياً واستثمارياً دقيقاً.

إن مبدأ "العدالة والإندماج المجتمعي" الذي نصت عليه الرؤية الوطنية يتطلب أيضاً تطبيقاً صارماً لعدسة "العدالة والتخصيص" (Justice & Allocation) عند توزيع الموارد المائية الجديدة، وخاصة المياه المعالجة المستخدمة في الري. يجب التأكد من أن المزارعين في المناطق الهشة والمجتمعات الأكثر اعتماداً على الموارد المستنزفة هم المستفيدون الرئيسيون، وألا تزيد تكلفة المياه المحلاة من التفاوت الاقتصادي.

5: تحديات التنفيذ وحوكمة الأمن المائي

1.5 الاستراتيجية الوطنية للمياه (2023-2040)

تمثل الاستراتيجية الوطنية للمياه للأعوام 2023-2040 آلية حوكمة متخصصة للتعامل مع أزمة شح المصادر المائية، وهي تأتي استجابة للمتغيرات البيئية والإقليمية. تهدف الاستراتيجية إلى تحقيق الأمن المائي المستدام من خلال زيادة مصادر التزويد المائي وإدارة أمثل للموارد الحالية. وتتمحور الحلول حول التوسع في مصادر غير تقليدية، أبرزها مشروع الناقل الوطني الجديد، والتوسع الكبير في معالجة مياه الصرف الصحي بمواصفات عالية الجودة لإعادة استخدامها في الري.

وتشدد الاستراتيجية على ضرورة آلية صنع القرار المبني على البيانات، والابتكار والتكنولوجيا، ورفع كفاءة استخدام المياه. كما تعكس الحاجة إلى إصلاح إداري أوسع، وتتماشى مع رؤية التحديث الاقتصادي وخارطة طريق تحديث القطاع العام.

2.5 الحوكمة كآلية لمكافحة الإهدار وتعزيز الفاعلية

تؤكد البيانات على أن التحدي الوطني يكمن في التنفيذ الفعال لإطارات الحوكمة. إن الحاجة الماسة لـ "الوصول للسياسات المرتكزة على الأسس العلمية" تتطلب تجاوز تحدي نقص الإحصائيات المحدثة للتدهور البيئي لتمكين التخطيط الدقيق. إن التحدي الجغرافي والإداري يتطلب إطار حوكمة قادراً على دمج اعتبارات التغير المناخي في كافة السياسات القطاعية الطويلة الأمد، بما يتجاوز الحدود الوزارية التقليدية.

نظراً لحدة ندرة المياه (61 م³/فرد) والكلفة الهائلة المقدرة للتدهور البيئي (9 مليار دولار)، فإن حوكمة الموارد المائية والطاقة ليست مجرد مسألة بيئية، بل ضرورة قصوى لضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. يتضح أن الإجراءات التنفيذية تتطلب تعزيز كفاءة الري ونظم التزويد للحد من التسرب، مما يشير إلى وجود إهدار كبير يجب معالجته بقوة من خلال الحوكمة الصارمة. هذه الصرامة يجب أن تتجسد في تطبيق محور "البنية والفاعلية" (Architecture & Agency) لضمان الشفافية في إدارة مشاريع التحلية والناقل الوطني، والحد من الاستخدام المفرط والمستنزف للمياه الجوفية.

الخلاصة والتوصيات الاستراتيجية

يمثل الأردن حالة فريدة حيث تتلاقى فيها الأخطار الكوكبية (نقاط التحول المناخي) مع الهشاشة المحلية المتمثلة في الفقر المائي المطلق والتصحر الشديد. وعلى الرغم من التحديات، يمتلك الأردن إطاراً سياسياً متقدماً يتمثل في السياسة الوطنية للتغير المناخي 2050 والاستراتيجية الوطنية للمياه 2040، اللتين تدمجان بوضوح محوري التكيف والتخفيف. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الاستراتيجيات يعتمد على مدى قدرة الأردن على تطبيق عدسات حوكمة نظام الأرض على مستوى التنفيذ.

التوصيات الاستراتيجية لتعزيز حوكمة نظام الأرض في الأردن

بناءً على التحليل المنهجي لعلوم وسياسات نظام الأرض، يمكن تقديم التوصيات الاستراتيجية التالية لتعزيز مرونة المملكة واستدامتها:

1. تعزيز "التوقع" بالبيانات العلمية: يجب توفير التمويل اللازم وبشكل عاجل لتحديث الإحصائيات البيئية، وخاصة نسب التصحر وتكلفة التدهور البيئي وجرد محتوى الكربون. إن صنع القرار المبني على البيانات هو السبيل الوحيد لتمكين التخطيط الاستراتيجي المستنير والحد من الكلفة الاقتصادية الباهظة المقدرة سنوياً.

2. دمج التكيف والتخفيف رأسمالياً: يجب ضمان ربط تمويل مشاريع التكيف الحيوية، كالناقل الوطني والتحلية، بتمويل مشاريع الطاقة المتجددة (1.1MM). هذا التكامل في التخصيص الرأسمالي يضمن أن التكيف مع ندرة المياه لا يقوض هدف حيادية الكربون 2050، ويقوي محور الترابط (Nexus) بين المياه والطاقة.

3. تفعيل "العدالة والتخصيص" في إدارة المياه: يجب تطبيق سياسات صارمة وشفافة لضمان التوزيع العادل للموارد المائية الجديدة وغير التقليدية (كالمياه المعالجة) وحماية المجتمعات الزراعية الهشة. يتطلب هذا تطبيق مبادئ العدالة البيئية والاقتصادية المنصوص عليها في الرؤية الوطنية.

4. تحسين "البنية الإدارية" للتنسيق: يجب تجاوز تحديات التنسيق الجغرافي والإداري من خلال آليات حوكمة واضحة تضمن تعميم ودمج التغير المناخي في كافة الخطط القطاعية الطويلة الأمد، وتعزز فاعلية المؤسسات في مكافحة الإهدار والتسرب في شبكات المياه.

5. الاستثمار في المرونة البيئية (EbA): يجب التوسع في دمج التكيف القائم على النظام البيئي والزراعة المراعية للمناخ كنهج مستدام لمكافحة التصحر وزيادة عزل الكربون في التربة، مما يعزز قدرة الأردن على مواجهة التغيرات المناخية من خلال استعادة الخدمات البيئية الطبيعية.

مدار الساعة ـ