أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: زيت الزيتون.. حين يُغشّ النور وتُزوَّر البركة


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: زيت الزيتون.. حين يُغشّ النور وتُزوَّر البركة

مدار الساعة ـ

ها قد أقبل موسم الزيتون، موسم البركة والعطر الأخضر، حين تصحو الحقول على أنين المعاصر، وتغسل الأرض تعبها بندى تشرين، وتفوح رائحة الزيت كأنها تسبيح الأرض بعد صمتٍ طويل.

وفي هذا الفصل المبارك، يعود الفلاح إلى جذوره، يمدّ يده في طينها كما يمدّ المصلي يده في وضوئه، يقطف من الشجر ما يشبه الصدق، ويعصر من الثمر ما يشبه الدعاء.

ومنذ سال الزيت أول مرةٍ على وجه الصخر، عُرف أنه دم الأرض الطاهر، وضياؤها الذي لا يُطفأ، وسرّ الخلود في قلب الطبيعة. ولكن، ما أشدّ أن ترى اليوم من يمدّ يده إليه بالغشّ والتزييف، فيمزج البركة بالسمّ، والنقاء بالزيف، والنور بالظلمة!

أيّ قلبٍ هذا الذي يجرؤ على تلويث ما باركه الله في كتابه؟ وأيّ يدٍ تلك التي تخون الشجرة التي علّمت الإنسان معنى الثبات؟

لقد دنّسوا الزيت، لا في جراره فقط، بل في وجدان الأمة، فأصبح الزيف يسيل في الأسواق كما يسيل الصدق من أعين الفلاحين الطاهرين.

في هذا الزمن الذي تتشابه فيه الألوان وتختلف النوايا، يُصبح الغشّ في زيت الزيتون ليس جريمةً غذائية، بل سقوطاً أخلاقياً يُقاس بعمق الجرح الذي يتركه في ضمير الوطن. لأنّ الزيتون ليس مجرد شجرة، بل أيقونة الصدق التي تُزرع في الأرض وتُثمر في الروح. ومن يغشّ الزيت يغشّ الأرض، ويغشّ الإنسان الذي عاش عمره يُبارك الزيت كأنه جزءٌ من صلاته اليومية.

الغشّ في الزيت ليس في مادته فقط، بل في رمزيته، في تلك العلاقة الأبدية بين الإنسان والطبيعة، بين الجهد والبركة. لقد صار الإنسان المعاصر يلوّث ما كان مقدّساً، ويزيّف ما كان نقيّاً، حتى باتت الأسواق تعجّ بزيوتٍ بلا روح، وأسماءٍ بلا شرف، وأرباحٍ تُقام على رفات القيم.

ولئن كان الفساد في غير الزيت يُفسد جيباً، فإنّ الغشّ في الزيت يفسد الوجدان ذاته، لأنه يسرق من المائدة طهارتها، ومن الجسد عافيته، ومن الأرض صدقها.

وفي عمق الفكرة، يطلّ السؤال الفلسفي المرّ: كيف انقلب الإنسان على الشجرة التي علّمته معنى الثبات؟ كيف خان رمزاً كان أقرب إلى المعبد من السوق؟ هنا تتجلى المأساة الكبرى — مأساة الإنسان الذي نسي أنه خرج من ترابٍ طاهر، فعاد إليه ملوّثاً.

أما من جهة الواقع الاجتماعي والسياسي، فإنّ زيت الزيتون الأردني ليس سلعةً تُباع وتُشترى، بل تراثٌ وطنيٌّ يُحمل على الكتف كما تُحمل الراية. هو لقمة فلاحٍ، ودخل عائلة، ومصدر حياةٍ لآلاف الأردنيين الذين زرعوا الصخر حتى أثمر. ومن يزوّر هذا الزيت، كأنه يزوّر هوية وطنٍ كاملة.

إنّ إجراءات رادعة يجب أن تُتخذ بحق هؤلاء الذين يقومون بعمليات الغشّ لزيت الزيتون، والذي يصعب على المواطن اكتشافه. فمحصول الزيتون وزيته يشكّلان الركيزة الأساسية في تحسين الأوضاع المعيشية لآلاف المزارعين، وخاصةً الصغار منهم، وقد لجأ بعض الفاسدين إلى طرقٍ ملتوية في الغشّ، مستخدمين موادَّ ملوِّنةً وسُمّيةً تُستعمل لتزييف الزيت النباتي، وإضافة نكهاتٍ مطابقةٍ لزيت الزيتون الأصلي، بينما تخلو تلك الزيوت من أيّ أثرٍ حقيقيٍّ للزيت المبارك.

هذه المواد ليست غذائية، وتراكمها في الجسم يسبّب أمراضاً سامة، ما يجعل الغشّ جريمةً مزدوجة: ضد صحة الإنسان، وضد سمعة الوطن.

إنّ هذه الجهود الحكومية والرقابية، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية ووزارة الزراعة، تهدف إلى حماية سمعة زيت الزيتون الأردني، الذي بات يُصدر إلى العديد من الدول ويحظى بمكانةٍ متميزة في الأسواق الإقليمية والعالمية بفضل جودته العالية ومطابقته للمواصفات والمقاييس الدولية.

وعلى المواطن الأردني أن يكون واعيًا، لا يُخدع بالإعلانات الوهمية، وأن يحرص على شراء الزيت من مصادر موثوقة وبفواتير رسمية وبأسعارٍ قريبةٍ من الأسعار التي تُصدرها وزارة الزراعة. فالحفاظ على نقاء الزيت مسؤولية وطنية قبل أن تكون مسؤولية فردية.

رسالة إلى المواطن الأردني:

يا ابن الأرض التي تباركت بالزيتون، لا تدع الطمع يسرق منك بركتك. لا تشتري الزيت من يدٍ مجهولة، ولا من إعلانٍ زائفٍ يبيعك اللون ويخفي السمّ. كن حارساً لما تبقّى من النقاء في زمنٍ باع الحقيقة بثمنٍ بخس. اشترِ الزيت من مصدرٍ تعرفه، كما تعرف وجه أمّك حين تبتسم. فزيت بلادك ليس سلعة، بل عهدٌ بينك وبين ترابها.

ختاماً

وسيبقى الزيتون ما بقيت الأرض، شجرةً لا تعرف الموت، وجذراً يعاند الريح، وزيتاً يُشبه النور حين يعجز الظلام عن محوه.

ستسقط أقنعة الزيف، وتبقى القطرة الصافية شاهدةً على أن البركة لا تُشترى، وأنّ الصدق لا يُزوَّر.

وحين يعود تشرين كلّ عام، ستستيقظ المعاصر من جديد، وتبكي الحجارة زيتاً نقياً، كما تبكي الأم على طفلها العائد من الغياب.

وسيبقى الفلاح الأردني — ذاك الذي ينام على صخرٍ ويصحو على كرامةٍ — شاهداً أن البركة تُستخرج من الصبر، وأنّ النور لا يذبل ما دام في الأرض رجلٌ صادقٌ يعصر الزيت كما يعصر الحلم.

أما الغشّاشون، فسيذروهم الزمن كما تذرو الرياح أوراق الخريف، ويبقى الزيت وحده خالداً، نقياً كما خُلق، مباركاً كما أُوحي، وأبدياً كما الوطن.

“من يغشّ زيت الزيتون، لا يغشّ المائدة، بل يخون الشجرة التي أنطقتها السماء بالسلام.”

مدار الساعة ـ