أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة شهادة الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون جامعات خليجيات مغاربيات دين بنوك وشركات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الركيبات تكتب: مفارقة التقدم.. تحليل منظومي للجريمة والأمن في الأردن


الدكتورة رشا الركيبات
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض

الركيبات تكتب: مفارقة التقدم.. تحليل منظومي للجريمة والأمن في الأردن

الدكتورة رشا الركيبات
الدكتورة رشا الركيبات
باحثة علوم وسياسات نظام الأرض
مدار الساعة ـ

لغز التقدم: رسم خريطة لمشهد متناقض

تُشكل الأجندة العالمية للتنمية المستدامة لعام 2030، التي اعتمدتها الأمم المتحدة، مخططًا عالميًا لتحقيق السلام والرخاء. وفي صميم هذه الأجندة يقع الهدف السادس عشر (SDG 16)، الذي يسعى إلى "تعزيز المجتمعات المسالمة والشاملة لتحقيق التنمية المستدامة، وتوفير إمكانية الوصول إلى العدالة للجميع، وبناء مؤسسات فعّالة وخاضعة للمساءلة وشاملة على جميع المستويات". يُعد تحقيق الهدف 16.1، الذي يدعو تحديدًا إلى "الحد بشكل كبير من جميع أشكال العنف ومعدلات الوفيات ذات الصلة في كل مكان"، تحديًا عميقًا، لا سيما في الدول النامية التي تواجه أزمات متقاطعة مثل عدم الاستقرار الاقتصادي والتقلبات السياسية. إن تعقيد العنف الحديث، الذي يتجاوز بشكل متزايد الحدود الوطنية والرقمية، يجعل استراتيجيات الحد من الجريمة التقليدية والخطية غير كافية.

في هذا السياق، تظهر "المفارقة الأردنية" كإشكالية مركزية تتحدى الفهم التقليدي لديناميكيات الجريمة وتستدعي تحليلًا أعمق وأكثر شمولاً. تشير الإحصاءات الرسمية للجريمة خلال العقد الماضي إلى تباين حاد في اتجاهات الجريمة، مما يقدم "لوحة نتائج" معقدة للتقدم الذي أحرزه الأردن نحو الهدف 16.1. فمن ناحية، حقق الأردن نجاحًا ملحوظًا في الحد من الأشكال "التقليدية" للجريمة، مثل الجرائم ضد الأشخاص والممتلكات، حيث انخفضت الجرائم ضد الأشخاص بنسبة 31.73%، وجرائم الممتلكات بنسبة 23.04% بين عامي 2013 و2023. ومن ناحية أخرى، شهدت الفترة نفسها نموًا هائلاً في الجرائم "الحديثة" والعابرة للحدود والشبكية، مثل الجرائم المتعلقة بالمخدرات والجرائم الإلكترونية. ارتفعت الجرائم المتعلقة بالمخدرات بنسبة 275.53%، بينما شهدت الجرائم الإلكترونية زيادة هائلة بلغت 1,114.17%.

إن هذا التناقض في الاتجاهات ليس مجرد تقلب عشوائي، بل هو مؤشر واضح على تحول هيكلي داخل المنظومة الإجرامية في الأردن. إن الانخفاض المتزامن في شكل من أشكال الإجرام والارتفاع الأسي في شكل آخر لا يمكن تفسيره من خلال السرديات البسيطة. بل يشير إلى أن الديناميكيات المنظومية الكامنة تُغير حسابات المخاطر والمكافآت بالنسبة للمجرمين. مع ازدياد مراقبة الأساليب الإجرامية التقليدية وانخفاض ربحيتها، فإن اليأس الاقتصادي المتصاعد والفرص التكنولوجية الجديدة توجه النشاط غير المشروع نحو مجالات مختلفة وأكثر ربحية. إن هذه الاتجاهات المتباينة ليست ظواهر مستقلة، بل هي أعراض مترابطة لمنظومة في حالة تحول، الأمر الذي يتطلب تفسيرًا أكثر تطوراً ومنهجية.

محرك الضغط: تشخيص اجتماعي-اقتصادي للمنظومة

يتطلب فهم هذه المفارقة الانتقال من مجرد الملاحظة إلى تحديد الدوافع السببية الكامنة وراءها. يكشف التحليل الكمي، الذي يشمل الارتباطات والانحدار، عن شبكة معقدة من العلاقات بين الدوافع الاجتماعية والاقتصادية والجريمة. يبرز معدل البطالة باعتباره المؤشر الأكثر تأثيرًا، حيث يُظهر ارتباطات قوية ومتناقضة. فمن ناحية، يرتبط بشكل إيجابي وقوي جدًا بالجرائم الحديثة والضغوط الاجتماعية، بما في ذلك الجرائم الإلكترونية (معامل الارتباط r=+0.92) وجرائم المخدرات (معامل الارتباط r=+0.88). ومن ناحية أخرى، يرتبط بشكل سلبي وقوي جدًا بالجرائم العنيفة التقليدية، مثل الجرائم ضد الأشخاص (معامل الارتباط r=−0.91) والاعتداءات الجسيمة (معامل الارتباط r=−0.93).

تُقدم هذه النتائج دليلًا تجريبيًا واضحًا على نموذج "حدود النمو". يعمل النمو السكاني في الأردن "كمحرك للنمو"، ولكنه يصطدم "بعامل مُقيّد" وهو القدرة المحدودة للاقتصاد على خلق فرص عمل كافية. وبدلاً من الازدهار، يؤدي هذا النمو إلى زيادة الضغط على الموارد، وتآكل الدخل الفردي، وتفاقم البطالة. هذا الضغط لا يقتصر على المجال الاقتصادي، بل يمتد ليصبح الوقود الذي يُغذّي منظومة الجريمة بأكملها. وتُظهر نتائج الانحدار القوية، التي تفسر 83% من التباين في الجرائم ضد الأشخاص (مع معامل سلبي) و84% من التباين في الجرائم الإلكترونية (مع معامل إيجابي)، أن البطالة هي محرك إحصائي ذو دلالة لهذه النتائج المتعارضة.

لفهم هذه الديناميكيات، يستند البحث إلى إطار نظري متكامل يجمع بين ثلاثة مفاهيم رئيسية:

• نظرية الإجهاد (Strain Theory) لروبرت ميرتون: تُفسر هذه النظرية الدافع وراء الجريمة. وتفترض أن الإجهاد الاجتماعي ينشأ من وجود فجوة بين الأهداف المرغوبة ثقافيًا (مثل الثروة) والوسائل المشروعة المتاحة لتحقيقها. في السياق الأردني، تُخلق معدلات البطالة المرتفعة، التي وصلت إلى 22% بشكل عام و46% بين الشباب في عام 2023، إجهادًا هائلاً. وعندما تُغلق المسارات المشروعة، قد يلجأ الأفراد إلى "الابتكار" من خلال وسائل غير مشروعة، وهو ما يفسر التحول نحو الجرائم المربحة مثل الاتجار بالمخدرات والجرائم الإلكترونية.

• نظرية إزاحة الجريمة (Crime Displacement Theory): تُفسر هذه النظرية النمط المتغير للجريمة. وتفترض أن المجرمين العقلانيين، عندما يواجهون مخاطر متزايدة من جهود الوقاية (مثل الحملات الأمنية على الجرائم التقليدية)، سيُزيحون نشاطهم الإجرامي. تُشير البيانات في الأردن إلى "إزاحة تكتيكية"، حيث ينتقل النشاط من الجرائم التقليدية عالية المخاطر (الاعتداء، السرقة) إلى الجرائم الحديثة التي يُنظر إليها على أنها أقل مخاطرة وأعلى مكافأة، مثل الجرائم الإلكترونية التي توفر إخفاء الهوية، أو شبكات المخدرات العابرة للحدود.

• التفكير المنظومي (Systems Thinking): يُعد هذا النهج الإطار الذي يفسر ديناميكيات المنظومة ككل. فهو يُدمج نظرية الإجهاد (المُحرك) ونظرية الإزاحة (النتيجة) في نموذج شمولي من الحلقات الارتجاعية. يتيح لنا التفكير المنظومي أن نرى كيف يمكن لـ "حلٍّ عرضيّ" (مثل التركيز على الجريمة التقليدية) أن يؤدي إلى "تحويل العبء"، حيث يتم إهمال المشكلة الأساسية (اليأس الاقتصادي)، مما يؤدي بشكل غير مباشر إلى تفاقم وتغذية أنواع جديدة من الجريمة، وهو ما يفسر المفارقة التي تم رصدها.

هندسة حلقة مفرغة: الحلقات الارتجاعية والفشل المنظومي

يكشف التحليل عن وجود هيكلين ارتجاعيين يفسران هذه المفارقة. تمثل التدخلات الأمنية التقليدية "حلاً عرضيًا" يُعالج الأعراض الأكثر وضوحًا، بينما تتجاهل المشكلة الأساسية.

الحلقة المتوازنة (B1): وهم السيطرة

تُظهر حلقة متوازنة أن العمل الشرطي التقليدي يُعدّ فعالاً في قمع العنف التقليدي. ويُشير الانخفاض في الجرائم ضد الأشخاص والممتلكات إلى نجاح هذه الاستراتيجيات، التي تتوافق مع الأدلة الدولية التي تُشير إلى أن جهود إنفاذ القانون المُوجهة والشرطة المجتمعية يمكن أن تقلل بشكل فعال من الجريمة العنيفة. يُعد هذا النجاح انتصارًا تكتيكيًا، لكنه يحمل في طياته وهم السيطرة. فهو يوحي بأن المشكلة قد تم حلها، في حين أنها في الحقيقة يتم قمعها وإجبارها على التحول إلى شكل مختلف. إن هذا الحل العرضي لا يُعالج المحرك الحقيقي للجريمة وهو الإجهاد الاجتماعي والاقتصادي، مما يمهد الطريق لظهور تهديدات أكثر خطورة.

الحلقة المعزّزة (R1): الحلقة المفرغة للجريمة الحديثة

هذه هي النقطة المحورية في تحليلنا. تُوضح حلقة معززة أن المشكلة الأساسية (الإجهاد الاقتصادي) لم يتم حلها، بل استمرت في النمو، مغذيةً دورة خبيثة من الجريمة الحديثة. يمكن فهم هذه الديناميكية بشكل أفضل من خلال نموذج "تحويل العبء" (Shifting the Burden) في التفكير المنظومي.

تعمل الحلقة المفرغة (R1) وفق التسلسل التالي:

1. الإجهاد الاقتصادي والاجتماعي (مدفوعًا بالبطالة والنمو السكاني): هذا هو المحرك الأساسي للمنظومة.

2. الابتكار في الوسائل غير المشروعة: يدفع اليأس الأفراد إلى اللجوء إلى أنواع جديدة ومربحة من الجرائم.

3. الزيادة الأسيّة في الجرائم الحديثة (المخدرات والإلكترونية): هذا هو العَرَض الجديد والمهيمن للمنظومة.

4. تآكل ثقة الجمهور وردع الاستثمار: يؤدي انتشار الجريمة الشبكية إلى تقويض العقد الاجتماعي، ويجعل المواطنين يشعرون بعدم الأمان، ويرسل إشارة سلبية للمستثمرين بأن البلاد بيئة غير مستقرة.

5. تفاقم الضغوط الاقتصادية والبطالة: تؤدي قلة الاستثمارات والثقة إلى تقليل فرص العمل، مما يغذي الدورة ويعيدها بقوة أكبر.

هذه الحلقة المعززة هي الآن المحرك المهيمن على البيئة الأمنية في الأردن. إنها تمثل نوعًا جديدًا من التهديدات الأمنية التي ليست عسكرية أو أمنية بحتة، بل هي تهديد منظومي واجتماعي واقتصادي ورقمي لا يمكن حله بالعمل الشرطي التقليدي وحده.

وعلاوة على ذلك، يكشف التحليل عن ديناميكية داخلية ضمن الجرائم الحديثة. يُظهر الارتباط الإيجابي القوي (r=+0.87) بين جرائم المخدرات والجرائم الإلكترونية أنهما ينموان جنبًا إلى جنب، ومن المرجح أن يكونا مرتبطين تشغيليًا. إن هذا ليس مجرد صدفة إحصائية، بل هو البصمة الرقمية لـ"التقارب التشغيلي". فشبكات تهريب المخدرات الحديثة تستخدم التكنولوجيا لتسهيل عملياتها: من التنسيق عبر تطبيقات المراسلة المشفرة إلى المبيعات في أسواق الويب المظلم وغسيل الأموال باستخدام العملات الرقمية. وبالتالي، فإن النمو في أحد هذين المجالين يخلق البنية التحتية والفرص للنمو في الآخر، مما يشكل حلقة معززة خاصة بهما.

نموذج جديد للأمن: تدخلات ذات تأثير كبير

يتطلب تشخيص مشكلة منظومية حلاً منظوميًا يتجاوز مجرد قمع الأعراض. الهدف هو إيجاد "نقاط الرفع" (high-leverage points) التي يمكنها إعادة هيكلة المنظومة بشكل جذري. تُقدم نماذج السيناريوهات التنبؤية، المبنية على تحليل الانحدار، أداة قوية لصياغة السياسات القائمة على الأدلة، حيث تُترجم المعاملات الإحصائية إلى نتائج ملموسة. على سبيل المثال، يُتوقع أن يؤدي انخفاض بنسبة 1% في معدل البطالة إلى انخفاض إجمالي قدره 1,795 جريمة، بما في ذلك انخفاض 995 جريمة مخدرات و1,100 جريمة إلكترونية، مع زيادة طفيفة في الجرائم ضد الأشخاص. هذا الارتباط الإحصائي يُمثّل أقوى دليل على أن سياسة مكافحة الجريمة الأكثر فاعلية هي في الواقع سياسة خلق فرص العمل.

تُقدم هذه النتائج ثلاث نقاط رئيسية للتدخل من أجل إحداث تغيير مستدام:

التوصية 1: إعادة تعريف تشغيل الشباب كأولوية للأمن القومي

إن الرابط الإحصائي بين البطالة والزيادة في الجريمة الحديثة هو النتيجة الأكثر أهمية. لذلك، فإن السياسة الأكثر فاعلية لمكافحة الجريمة هي خلق فرص العمل. تشمل السياسات القابلة للتطبيق إطلاق برامج توظيف موجهة للشباب على نطاق واسع، ودمج المهارات الرقمية في المناهج الوطنية، وإنشاء صندوق وطني للشركات الناشئة التي يقودها الشباب.

التوصية 2: بناء القدرة الرقمية والاجتماعية على مواجهة التهديدات الحديثة

نظرًا لأن الجريمة أصبحت شبكية، يجب أن تكون الحلول شبكية أيضًا. يتطلب ذلك نهجًا متعدد الأوجه يتجاوز الأمن التقليدي على الحدود والأمن السيبراني. تشمل السياسات القابلة للتطبيق الاستثمار في مركز دفاع سيبراني وطني، وتعزيز التعاون الإقليمي لتعطيل شبكات تهريب المخدرات (خاصة تهريب الكبتاغون من سوريا)، وتطبيق برامج قائمة على الأدلة للوقاية من المخدرات وعلاجها.

التوصية 3: تعزيز الحوكمة والثقة العامة لكسر الدورة

تتغذى حلقة R1 على انعدام الثقة العامة. وتُعد إعادة بناء العقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة نقطة رفع حاسمة. يمكن أن يُستخدم قانون الجرائم الإلكترونية لعام 2023 كدراسة حالة، إذ يهدد بمخاطرة تآكل الثقة العامة بسبب مصطلحاته الغامضة وعقوباته القاسية، مما قد يعزز الحلقة المفرغة التي يسعى إلى معالجتها. يجب أن تكون التوصية هي إصلاح هذا القانون وتعزيز مبادرات الشرطة المجتمعية.

الخلاصة: المسار المنظومي نحو التنمية المستدامة

قدّم هذا البحث تقييمًا شاملًا وقائمًا على الأدلة لتقدم الأردن نحو الهدف 16.1 من خلال تطبيق مبتكر لإطار التفكير المنظومي. يكشف التحليل عن مشهد جريمة معقد ومتناقض، حيث طغى الارتفاع الأسي في الجرائم الحديثة والشبكية (الاتجار بالمخدرات والجرائم الإلكترونية) على التقدم الجدير بالثناء في الحد من الجرائم العنيفة والجرائم التقليدية ضد الممتلكات.

إن المساهمة الأساسية لهذا البحث هي تطوير مخطط الحلقات السببية الذي يُحدد "حلقة مفرغة" معززة وقوية، حيث يُغذي الإجهاد الاقتصادي المستمر، الناتج عن ارتفاع معدلات البطالة، نمو الجريمة الحديثة. وهذا بدوره يؤدي إلى تآكل الثقة العامة وردع الاستثمار، مما يُديم الظروف التي تُعزز الإجرام. إن هذه الحلقة المعززة (R1) هي الآن المحرك المهيمن على البيئة الأمنية في الأردن.

إن التحدي المتمثل في تحقيق الهدف 16.1 في القرن الحادي والعشرين هو "مشكلة مستعصية" تتحدى الحلول البسيطة والخطية. تُوضح حالة الأردن بشكل صارخ كيف يمكن أن يُقوّض التقدم في مجال ما من خلال ديناميكيات معقدة ومترابطة في مكان آخر داخل المنظومة. تُظهر نتائج هذا البحث أن الأردن، لكي يضمن السلام والعدالة الدائمين، يجب أن يُطوّر إطاره السياسي من التركيز الضيق على قمع أعراض الجريمة إلى استراتيجية منظومية أوسع تتناول الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار. لا يُقدم هذا النهج القائم على المنظومات مسارًا أكثر فاعلية للأردن فحسب، بل يوفر أيضًا نموذجًا قيمًا للدول الأخرى التي تُعاني من التحديات الأمنية المعقدة في عصرنا.

Al-Rkebat, R. A. (in press). A Systems Thinking Framework for Assessing and Enhancing Jordan's Progress Towards SDG 16.1. Cogent Social Sciences Journal.

مدار الساعة ـ