أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

البستنجي يكتب: إدارة الصف الإبداعية.. من النظام المفروض إلى بناء الضمير والانضباط الذاتي


إياد يوسف البستنجي

البستنجي يكتب: إدارة الصف الإبداعية.. من النظام المفروض إلى بناء الضمير والانضباط الذاتي

مدار الساعة ـ

سلسلة مقالات بداية العام الدراسي الجديد.

المرحلة الثانية: بناء جسور التواصل الإنساني أساس البيئة الصفية الآمنة

المقال الرابع:

ليست إدارة الصف مجرد تنظيم للمقاعد أو ضبط للسلوك، بل هي فن قيادة القلوب والعقول داخل بيئة التعلم. فالصف، في جوهره، ليس جدرانًا ومقاعد، بل مجتمع مصغر تتكوّن فيه القيم وتتشكل فيه ملامح الشخصية. ومع كل عام دراسي جديد، يواجه المربي سؤالًا جوهريًا:

كيف يمكن أن ينتقل من فرض النظام إلى بناء الانضباط الذاتي؟

كيف يزرع في طلابه الرغبة في التعلم، لا الخوف من العقوبة؟

في زمن تتعدد فيه مصادر المعرفة وتتنافس فيه الشاشات على انتباه المتعلم، لم يعد الضبط الخارجي كافيًا. إنّ ما يحتاجه الطالب اليوم هو قيادة داخلية تستند إلى وعي ذاتي وضمير حيّ، يصوّب سلوكه من الداخل لا من ضغط الخارج. وهنا تتجلى أهمية الإدارة الصفية الإبداعية بوصفها منهجًا يربط بين العقل والعاطفة، وبين النظام والحرية.

أولًا: من الانضباط المفروض إلى الالتزام الذاتي

في النماذج التقليدية للإدارة الصفية، كان النظام غاية بحد ذاته. تُعلّق القواعد على الجدران، وتُكرَّس السلطة للمعلم وحده، ويُكافأ الملتزم ويُعاقَب المخالف. ورغم أن هذه الأساليب قد تضمن هدوء الصف مؤقتًا، إلا أنها تُنتج طلابًا منضبطين سلوكيًا لا وجدانيًا.

أما في الإدارة الصفية الإبداعية، فإن الهدف يتجاوز الضبط إلى تنمية الضمير. يبدأ المعلم ببناء اتفاق صفّي تشاركي، يضع فيه الطلاب قواعدهم بأيديهم، ويفهمون الغاية من كل قاعدة، فيتحول النظام إلى قناعة داخلية لا إلى قيد خارجي.

▫ تحليل تربوي:

هذا التحول يُعدّ من أهم مظاهر التربية الحديثة، لأنه يربط بين المسؤولية والحرية، ويغرس في الطالب الإحساس بالانتماء والكفاءة والاستقلالية.

فالانضباط الذاتي ليس سلوكًا طارئًا، بل هو قيمة تنشأ من الوعي، وتنمو بالممارسة.

ثانيًا: نظرية الدافعية الذاتية مدخل علمي لفهم الالتزام

تُظهر أبحاث "ديتشي وريان" (Deci & Ryan) في نظرية التحديد الذاتي (Self-Determination Theory) أن الطالب لا يمكن أن يكون متحمسًا للتعلم إلا إذا توفرت له ثلاث حاجات نفسية أساسية:

▫الانتماء: أن يشعر بأنه مقبول ومحبوب داخل الجماعة الصفية.

▫الكفاءة: أن يدرك أنه قادر على النجاح والإنجاز.

▫الاستقلالية: أن يشعر بحرية اتخاذ القرار والمشاركة في التعلم.

حين يُشبع المعلم هذه الحاجات، يتحول الانضباط من استجابة لأوامر إلى تعبير عن وعي ذاتي. فالمعلم لا يسيطر، بل يحتوي ويوجه.

▫ استراتيجيات تطبيقية:

إشراك الطلاب في وضع القواعد وتقييم الالتزام بها.

توظيف التعلم القائم على التحدي (Challenge-Based Learning) لربط المهام بحياة الطلاب الواقعية.

اعتماد التعلم باللعب (Gamification) لجعل الانضباط تجربة ممتعة.

الاعتراف بالجهد والمثابرة بدل الاقتصار على النتائج.

تنويع الأدوار الصفية (قائد، منظم، ميسر، مراقب وقت...) لترسيخ الإحساس بالمسؤولية.

▪ تحليل تربوي:

هذه الممارسات تخلق مناخًا يشعر فيه الطالب بالثقة والانتماء، فيمارس الانضباط لا لأنه مُجبَر، بل لأنه اختار أن يكون جزءًا من منظومة ناجحة. وهنا يبدأ التحول الحقيقي من النظام المفروض إلى الالتزام الواعي.

ثالثًا: الأنشطة الصفية التي تُشعل الانضباط الذاتي

الأنشطة الإبداعية ليست ترفًا، بل هي وسيلة تربوية لصناعة السلوك الواعي. ومن أبرز ما يمكن أن يطبقه المعلم في هذا السياق:

▫محطات التعلم (Learning Stations): تقسيم الصف إلى زوايا تعلم مختلفة تناسب قدرات الطلاب، فتمنحهم حرية الحركة والاختيار.

▫مشاريع قصيرة الأمد: كإنتاج فيديو أو ملصق توعوي أو بودكاست حول قيمة تربوية، مما يعزز الشعور بالإنجاز والمسؤولية.

▫تمثيل الأدوار (Role Play): تدريب الطلاب على مواقف حياتية مثل إدارة الخلاف أو اتخاذ القرار.

▫استبيانات سريعة: ورقية أو رقمية، لقياس فهم الطلاب وتفاعلهم وتشجيعهم على تقييم ذاتهم.

▫مجلس الصف: لقاء دوري يديره الطلاب أنفسهم لمناقشة سلوكيات الصف واتخاذ قرارات جماعية لتحسين البيئة الصفية.

▫ تحليل تربوي:

هذه الأنشطة تجعل الطالب شريكًا في صناعة النظام لا متلقيًا له، وتدرّبه على الحوار والمسؤولية والتفكير الناقد، وهي أساسيات بناء شخصية متوازنة ومجتمع صفّي آمن.

رابعًا: دور المعلم في الإدارة الإبداعية

المعلم هو القائد الصامت الذي يُحدث التغيير بالقدوة لا بالأوامر.

فهو الذي يُنصت قبل أن يحكم، ويهدي قبل أن يعاقب، ويغرس قبل أن يطلب الثمار.

سمات المعلم القائد بالقدوة:

▫قدوة حية: يجسد القيم التي يدعو إليها في سلوكه اليومي.

▫مراقب فعّال: يلتقط إشارات الطلاب العاطفية، ويحول الموقف السلبي إلى فرصة للنمو.

▫موجّه حكيم: يُتيح للطلاب التعبير الحر، ويقود النقاش نحو الفهم لا نحو الجدال.

▫مصمم بيئة تعلم محفزة: يُوازن بين التحدي والدعم، فيخلق جوًا يسوده الاحترام والثقة.

▫ تأمل تربوي:

إنّ المعلم المبدع لا "يضبط الصف، بل يوازن النفس.

هو من يجعل الطالب يحبّ النظام لأنه يجد فيه ذاته، لا لأنه يخاف من المعلم.

وهنا يلتقي المعلم المربي برسالة الأنبياء والمصلحين الذين ربّوا الضمير قبل أن يصحّحوا السلوك.

خامسًا: المدرسة الداعمة الحاضنة الكبرى للانضباط الذاتي

المدرسة التي تؤمن بثقافة الانضباط الواعي لا تكتفي بمطالبة المعلمين بالانضباط، بل تمنحهم الثقة والحرية والمساحة للتجريب والإبداع.

فالإدارة التربوية الواعية تخلق مناخًا يسوده التعاون والاحترام، وتحوّل الأخطاء إلى فرص للتعلّم، وتُشرك الطلبة والمعلمين في صناعة القرار.

▫ تحليل مؤسسي:

عندما تُصبح قيم الثقة والمسؤولية والاحترام مشتركة بين جميع عناصر المدرسة، يتحول الانضباط من سلوك فردي إلى ثقافة مؤسسية تُنظم العلاقات وتغذي روح الفريق.

سادسًا: البعد القيمي والإسلامي في الانضباط الذاتي

الانضباط الذاتي ليس مجرد مهارة إدارية، بل هو قيمة أخلاقية أصيلة في الفكر الإسلامي.

فالرسالة التربوية في الإسلام تبدأ بتزكية النفس:

"قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها"

وتؤكد أن الحرية الحقيقية تنبع من ضبط النفس لا من الانفلات منها.

ومن هنا، فإنّ المعلم المسلم حين يُربي طلابه على الانضباط الواعي، فإنه يُعيد وصل التربية الحديثة بجذورها القيمية الأصيلة؛ فيجعل التعليم رسالة تهذيب قبل أن يكون وسيلة تقويم.

? في نهاية المطاف، إدارة الصف الإبداعية ليست خطة عمل بقدر ما هي فلسفة حياة تربوية، تقوم على الإيمان بأنّ الطالب كائن قادر على التعلّم والاختيار وتحمل المسؤولية.

حين يدرك المعلم أنّ دوره ليس فرض النظام بل بناء الإنسان، يتحوّل الصف من مساحة ضبط إلى رحلة وعي، ومن بيئة خوف إلى ساحة ثقة ومحبة.

? القاعدة الذهبية:

القواعد تحفظ النظام… لكن التربية بالقلب والإبداع معًا تصنع إنسانًا متعلّمًا بشغف ومسؤولية.

مدار الساعة ـ