حتى لا ننسى، حين قابل جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، حاول الأخير أن يمارس ضغوطًا، وقال عبارات لم تكن ضمن أجندات اللقاء ولا في سياق الحوار الرسمي، فكان رد الملك عبدالله الثاني حاسمًا وحازمًا حين قال له: "نحن سنستقبل إلا ألفي طفل فلسطيني للعلاج فقط، وإننا سنعود إلى العرب، وتحديدًا إلى مصر." تلك العبارة تجاوزت الدبلوماسية إلى ما هو أبعد شهد له فيها أصحاب الرأي غير المسيس، وكانت إعلانا مبكرا لمعادلة الثوابت: لا للتهجير، لا للوطن البديل، ولا لأي حل يتجاوز عمّان والقاهرة... وكانت وزارة الخارجية الأردنية هي خير من يمثل الضمير العربي والصوتي العربي.
لا للتهجير، لأن الأردن ومصر قد تحمّلتا ما لم تتحمله أي دولة أخرى في المنطقة، من ضغوط اقتصادية وسياسية وأمنية هدفها تصفية القضية الفلسطينية على حسابهما، لكنهما بقِيَتا على العهد، صامدتين رغم العواصف. فعمّان لم تساوم على القدس، والقاهرة لم تفرّط بغزة، ومن هنا تتجدد المبادرة العربية بروح الأخوّة، تنبض من قلب مصر التي كانت وما زالت صاحبة الدور المركزي في حفظ التوازن العربي.لا للوطن البديل، لأن فلسطين هي فلسطين، والأردن هو الأردن، ولكلٍّ دوره وتاريخه وهويته، ولا يمكن أن تتحول معاناة الفلسطينيين إلى مشروع استيطان سياسي جديد. لقد حاولت قوى عديدة أن تفرض معادلات زائفة في زمن الضعف العربي، لكن التاريخ يُعيد نفسه اليوم: لا حلّ بدون القاهرة وعمّان، ولا تسوية تُمرّ دون موافقتهما، لأنهما حائط الصد الأخير في وجه الانهيار الأخلاقي والسياسي للمسألة الفلسطينية.العرب سيقدّمون مبادرة الإخوة في مصر، مبادرة لا تشبه ما سبقها من مبادرات، لأنها تأتي من وجدان الشعوب، لا من مكاتب المستشارين، مبادرة تُعيد الاعتبار للموقف العربي الموحّد، وتؤكد أن السلام لا يُبنى على الدماء، بل على العدالة والحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه.والآن، وبعد ما تحمّل الأردن ومصر من محاولات خنقٍ اقتصادي وضغوط سياسية، ها هي مصر، بقيادة شجاعة، تفتح أبوابها للعالم لتقول: نحن هنا، فلا حلّ بدون القاهرة وعمّان. وقد سبق أن صرح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن الأردن ومصر في قضية التهجير: "سيفعلان"، في محاولة للضغط عليهما لتنفيذ مخطط نقل الفلسطينيين، لكن الأردن ومصر لم ينخرطا في هذه اللعبة، بل ثبتا على المبدأ وصانا القضية كما يصون المرء شرفه الوطني. واليوم، عندما سيعود ترامب إلى القاهرة ليوقّع أمام أنظار العالم على ما يسمّى ضماناته، سيشهد الجميع أن ما حاول فرضه على الأردن ومصر لم يحدث، وأن الدولتين وقفتا صامدتين، محافظةً على الحقوق والكرامة والعدالة في قلب المعادلة العربية.فليُكتب هذا في الذاكرة العربية: أن الموقف لا يُقاس بعدد المؤتمرات، بل بصلابة الرجال الذين قالوا "لا" حين كان الجميع يقول "نعم"، وأنّ مصر وعمّان لم تكونا يومًا تابعتين لأحد، بل كانتا صانعتَي التوازن العربي وحارستَي بوابة العروبة الأخيرة.وسط هذه الزحمة من المواقف المتناقضة والمصالح المتقاطعة، ظلّ الملك يضع الإنسان أولًا. لم يترك للألم أن يُصبح وسيلة ضغط، ولا للسياسة أن تمحو التعاطف. أدار الأزمة بعقلٍ واقعيّ وقلبٍ إنسانيّ، وجعل من المرونة أداةً للإنقاذ لا للضعف. لقد أرسل رسالةً أخلاقية إلى العالم مفادها أن السياسة التي لا تحفظ كرامة البشر ليست سوى صفقة مؤجلة الخسارة.ومن رحم التجربة خرجت خلاصاته العملية: لا حلول تُفرض من الخارج دون إشراك من يعيشون ثمنها في الداخل، ولا احترام حقيقيّ دون إدراك لأعباء الدول الصغيرة التي تحرس الاستقرار وهي تكاد تختنق من تبعاته. فالتوازن بين الأخلاق والسياسة ليس ترفًا، بل هو الشرط الوحيد لنجاة المنطقة من الجنون القادم.وفي زمنٍ كان صمت العالم أقوى من صوت الحرب، بقي الموقف الأردنيّ شاهدًا على أن الحكمة ليست حيادًا، بل شجاعة من نوعٍ آخر. شجاعة تقول «لا» حين يُغري الصخب بـ«نعم»، وتقول «كفى» حين تتغافل المصالح عن وجع الشعوب. هذه هي الخلاصة التي أراد الملك أن يتركها: أن تكون إنسانًا دون أن تفقد صلابتك، وأن تكون سياسيًا دون أن تفقد روحك، وأن تدافع عن وطنك دون أن تنسى أن للآخرين حقًا في الحياة. خذوا هذه الخلاصات لا كشعارات تُقال في المناسبات، بل كدروس تُكتب في الذاكرة السياسية للأمة؛ ففي زمن العواصف، لا تُقاس الدول بارتفاع الصوت، بل بوضوح البوصلة وثبات القائد الذي يعرف أن العاصفة تمرّ، لكن التاريخ لا ينسى من وقف في وجهها بثقةٍ وضمير.الخوالدة يكتب: خذوا الخلاصات من الملك عبدالله الثاني
مدار الساعة ـ