في ظل التغيرات والتحولات العالمية، يقف الأردن شامخًا كصورةٍ نادرة لدولةٍ حافظت على جوهرها، وجدّدت أدواتها، دون أن تفقد ملامحها الأصيلة هذا هو جوهر كتاب «الانتقال الكبير الأردن في القرن الحادي والعشرين» الصادر عن صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية (KAFD) بمناسبة اليوبيل الفضي لتولي جلالة الملك عبدالله الثاني سلطاته الدستورية (1999–2024)، والذي يوثّق رحلة ربع قرن من الاستمرارية والتجديد، ويقدّم رؤية عميقة لمشروع الدولة الأردنية الحديثة في فكرٍ وقيادةٍ وممارسة.
منذ نشأة الدولة الأردنية، شكّلت الهوية الوطنية لبنتها الأولى وركيزة وجودها، وهي هويةٌ جامعة تقوم على أربع ركائز أصيلة: العروبة التي تعكس الانتماء الحضاري للأمة، والإسلام الوسطي الذي يمثّل الاعتدال والتسامح، والإنسانية التي تصون الكرامة والمساواة، والمواطنة التي تجسّد الحقوق والواجبات في عقدٍ اجتماعي راسخ.لقد استطاعت الدولة الأردنية أن تصيغ نموذجًا متوازنًا يجمع بين الأصالة والحداثة، وأن تحوّل التنوع الاجتماعي والثقافي إلى مصدر وحدة لا انقسام، فهي دولة تراكمية البناء، تتجدّد دون أن تتخلى عن جذورها، وتستمر دون أن تتوقف عن التطوير.على مدى عقدين من التحولات الكبرى في المنطقة من حروبٍ وصعودٍ للتطرف إلى انهيار أنظمة ظلّ الأردن نقطة اتزانٍ في محيطٍ متقلب، حيث مارس سياسةً تقوم على ما وصفه الكتاب بـ «الندّية الاستراتيجية»، أي احترام الذات الوطنية والقدرة على الحوار دون التبعية، وفي القضية الفلسطينية، ثبت الموقف الأردني كصخرةٍ في وجه الضغوط: القدس خطٌ أحمر، والوصاية الهاشمية أمانةٌ تاريخية، وحل الدولتين خيارٌ لا بديل عنه، كما أكّد الأردن سيادته باستعادة أراضي الباقورة والغمر عام 2019، وبتحركاته الدبلوماسية والإنسانية أثناء حرب غزة 2023 التي جسّدت عمق التزامه الأخلاقي والإنساني، وفي خضمّ الأزمات العربية، اختار الأردن الحياد الإيجابي، رافضًا أن يكون طرفًا في أي صراعٍ أو تابعًا في محور من المحاور، بل حافظ على دوره الوسيط وصوته العاقل في محيطٍ مضطرب وملتهب أما في مواجهة الإرهاب، فقدّم الأردن أنموذجًا فكريًا وأمنيًا عالميًا، من خلال رسالة عمّان وكلمة سواء وأسبوع الوئام بين الأديان، مؤكدًا أن محاربة التطرف تبدأ من الوعي لا من السلاح فقط، تحت عنوانٍ وطنيٍ دائم هو “الاعتماد على الذات”، خاض الأردن واحدة من أصعب معاركه تتمثل ببناء اقتصادٍ قادرٍ على الصمود أمام الأزمات، فمنذ مطلع الألفية، شهدت البلاد سلسلة إصلاحات مالية وهيكلية هدفت إلى الانتقال من اقتصاد المساعدات إلى اقتصاد الإنتاج والمعرفة.جاءت رؤية التحديث الاقتصادي 2022 لتجسّد هذا التحوّل، إذ وضعت خريطة طريق واضحة لتحفيز النمو، وتمكين القطاع الخاص، وخلق فرص عمل مستدامة، ورغم الصدمات التي واجهها من تدفق اللاجئين إلى جائحة كورونا أثبت الاقتصاد الأردني مرونةً استثنائية غير مسبوقة، كما برزت قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا وريادة الأعمال والطاقة المتجددة والسياحة الذكية، لتكون أدوات المستقبل في بناء الثروة الوطنية.أن تكون دولة فقيرة بالموارد لا يعني أن تكون فقيرة بالإمكانات، فالأردن، أحد أكثر بلدان العالم ندرة في المياه والطاقة، اختار أن يجعل من هذا التحدي مدرسة في الإبداع والتخطيط المستدام من خلال: مشروع الناقل الوطني لتحلية المياه ومشاريع الطاقة الشمسية والرياح ليست مجرد مشاريع تنموية، بل شاهده على عقل إداري يؤمن بالحلول الذكية لا بالشكوى،كما اتجهت السياسات الاقتصادية نحو تعزيز الأمن الغذائي والاعتماد على الإنتاج المحلي، إلى جانب برامج تشغيل وتمكين تستهدف الشباب والمرأة، وهكذا تحوّلت الندرة إلى دافع للابتكار لا سببٍ للعجز، فالتنمية ليست أرقامًا اقتصادية فحسب، بل جودة حياةٍ يشعر بها المواطن ولذا، جاء التركيز على تطوير التعليم بمراحله كافة، عبر تحديث المناهج وتوسيع التعليم المهني والتقني وربط المخرجات بسوق العمل، وفي القطاع الصحي، أثبت الأردن جاهزيته خلال جائحة كورونا، ووسّع من مظلة التأمين الصحي ومن شبكة الخدمات في المحافظات.أما البنية التحتية، فشهدت نهضة في الطرق والمطارات والموانئ والنقل العام، بما يعزز التواصل بين المدن والمحافظات هذه الجهود مجتمعة تهدف إلى ترسيخ مبدأ أن رفاه المواطن الأردني هو جوهر الشرعية الوطنية وغاية التنمية.لم يكن الشباب في الأردن جيلًا على الهامش، بل قلب عملية التغيير والتنمية، فبرامج صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية أسهمت في بناء جيلٍ واع مبادرٍ ورياديّ، قادر على الإبداع والمنافسة في عالمٍ متحوّل، الرياضة تحوّلت إلى أداة وطنية لتوحيد الطاقات وتعزيز الانتماء، فيما مثّلت الثقافة والفنون مساحةً للتعبير والانفتاح والتنوير، كذلك، حظيت المرأة بدورٍ متنامٍ في القيادة والعمل العام، تأكيدًا على مبدأ الشراكة المتكافئة في التنمية، فالأردن يراهن على شبابه ونسائه بوصفهم ثروته الوطنية الكبرى التي لا تنضب.في محيطٍ عربيٍ شهد انهياراتٍ سياسية واجتماعية، تفرّد الأردن بما يسمى "الاستثناء الأردني" أي القدرة على الإصلاح، والتغيير والإصلاح السياسي في الأردن مسارٌ تراكمي لا انفجاري؛ فقد تطوّرت القوانين الانتخابية والحزبية واللامركزية بشكلٍ يوسع المشاركة دون المساس بالأمن والاستقرار، فالثقة بين القيادة والشعب، والاعتدال الفكري، والوسطية السياسية، جعلت من التجربة الأردنية نموذجًا للدولة المتوازنة بين الشرعية والإنجاز.تحديث الدولة لا يكتمل إلا بسيادة القانون، وهي القيمة التي جعلها الأردن حجر أساس في مسيرته، تم تطوير المنظومة التشريعية وتعزيز استقلال القضاء، إلى جانب إنشاء مؤسسات رقابية قوية مثل هيئة النزاهة ومكافحة الفساد وديوان المحاسبة، كما أطلقت الحكومة برنامج تحديث القطاع العام 2022 الذي يهدف إلى بناء إدارة رشيقة وفعّالة، وتوسيع الخدمات الإلكترونية لتسهيل حياة المواطن، وتقليل البيروقراطية إنها نقلة من “الإدارة الورقية” إلى “الإدارة الذكية”، ومن التلقين إلى الأداء القائم على الكفاءة والنتائج. يقدّم كتاب «الانتقال الكبير» شهادةً وطنية شاملة على أن الأردن، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، نجح في أن يجمع بين ثبات الهوية وتجدد الرؤية، وبين الاستقرار والتقدم، وبين الإنسانية والحداثة، لقد بنى الأردن خلال خمسةٍ وعشرين عامًا منظومة دولةٍ متماسكةٍ، قوامها: الإنسان محور التنمية، والقيم أساس السياسات، والاعتدال سبيل القوة، وهكذا، يظلّ الأردن نموذجًا عربيًا فريدًا في المنعة والعقلانية والأمل دولةٌ صغيرةٌ في الجغرافيا، كبيرةٌ في الرؤية، الرسالة، والأهداف.قراءات في كتاب الانتقال الكبير الأردن بين ثبات الهوية وتجدّد المسار (2)
مدار الساعة  ـ