أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين رياضة اخبار خفيفة ثقافة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الحجاج يكتب: حين يغفو الوعي ويضعف الانضباط تتعثر الجامعات في مسارها وتقدمها!


أحمد سعد الحجاج
صحفي أردني

الحجاج يكتب: حين يغفو الوعي ويضعف الانضباط تتعثر الجامعات في مسارها وتقدمها!

أحمد سعد الحجاج
أحمد سعد الحجاج
صحفي أردني
مدار الساعة ـ

في صباحٍ جامعيٍ كان يُفترض أن يفيض بالحياة والجدّ والاجتهاد، تحوّل الحرم الجامعي إلى ساحة اشتباكٍ وعلوّ صوتٍ وغياب وعي، لتتصدّر المشاجرة المشهد الإعلامي، وتضعنا مجددًا أمام السؤال الأكثر إيلامًا وإلحاحًا: كيف تحوّل فضاء العلم إلى ميدان خصومةٍ وصراع؟ ولماذا تتكرر هذه المشاهد وكأنها موسمٌ لا يغيب، ومساقٌ لا يُلغى من جدولنا الجامعي؟

الجامعات لم تُخلق لتختنق في زوايا المشاجرات، بل لتسمو بالوعي وتُخرّج الفكر والنهضة. هي الصروح التي يُفترض أن تكون مناراتٍ للعقل، ومصانع للقيم، ومواسم تزهر فيها المواطنة الصادقة والانتماء الشريف. إنها حاضنات المستقبل، ومرايا الوطن التي تعكس وجهه الحضاري المشرق. وحين يتسرب الدخان إلى هذه المرايا، فإن الغبش لا يحجب ملامح الجامعة فحسب، بل يُعكّر صورة الدولة بأكملها.

إن غياب الردع الصارم هو الباب الذي تدخل منه الفوضى بثوب التبرير، وهو الصمت الذي يمنح العنف فرصة النطق. فحين تغيب العقوبات الواضحة، ويتراخى تطبيق القانون، ويُستبدل الانضباط بالمجاملة، يتحول الاستثناء إلى قاعدة، وتتراجع هيبة الجامعة أمام سطوة الانتماءات الضيقة. الردع ليس قسوة، بل عدالة تحفظ الهيبة وتعيد المعنى، وتغرس في كل طالب شعورًا بأن القانون لا يعرف واسطة، وأن العدالة لا تُفرغ من مضمونها تحت وطأة التدخلات أو الخوف من ردة الفعل.

على أصحاب القرار أن يدركوا أن إطفاء جذوة العنف لا يكون بالتصريحات، بل بصناعة وعيٍ جديدٍ من داخل القاعات. فبدلًا من أن نكتفي بتدريس مساقات جامدة، يجب أن نُدرّس مساقاتٍ إجبارية في الوعي والسلوك والانتماء الحقيقي، تغرس في الطلبة قيمة الانضباط واحترام القانون، وتُربّي فيهم روح المسؤولية الوطنية والانتماء لتراب الوطن ومؤسساته. فالمعرفة لا تكتمل إلا إذا سكنت في عقلٍ منضبطٍ ووجدانٍ منتمٍ.

إن تكرار المشاجرات الطلابية في ساحات الجامعات، وكأنها موسم لا يفوت ولا يغيب، دليل على خللٍ عميقٍ في منظومة الوعي الجمعي، وعلى ثقافةٍ لم تُراجع بعد أدواتها في التعبير. حين يُستبدل الحوار بالقبضة، والاختلاف بالصراخ، فإننا نصوغ بأيدينا بيئةً تُعيد إنتاج ذات المشهد في كل فصلٍ دراسيٍّ جديد. إنها ليست مشاجراتٍ عابرة، بل مرآةٌ تُظهر حجم الفراغ التربوي الذي نغفله.

أما نبع العشائرية، فهو ليس لعنةً كما يصوره البعض، بل قيمةٌ إذا وُظفت إيجابيًا يمكن أن تكون ذراعًا للبناء لا للهدم. فالعشيرة التي تربي أبناءها على النخوة والشهامة والكرم، قادرةٌ على أن تغرس فيهم أيضًا حب الوطن واحترام القانون، وأن تكون شريكًا في صون السلم المجتمعي، لا غطاءً لمن يعبث به. إننا بحاجة إلى تحويل العشائرية من مظلةٍ للحماية الخطأ إلى منارةٍ للقدوة والالتزام الصحيح.

كما أن الانتماء للوطن لا يُقاس بالشعارات، بل بالفعل والالتزام. الانتماء الصادق هو أن تحترم مؤسسات وطنك، وأن تصون صرحك الجامعي، وأن تؤمن أن كل حجرٍ في الحرم الجامعي هو جزءٌ من كرامتك وهويتك. وعلى الإدارات الجامعية أن تعي أن غرس هذا الانتماء مسؤولية تربوية لا تقل شأنًا عن أي منهاجٍ أكاديمي.

ولأن العدالة لا تُبنى بالانتقائية، فلا بد من تحييد كل تدخلٍ يفرغ العقوبات من مضمونها، وتفعيل نظم المساءلة لتشمل الجميع دون تمييز. لا مكان لمحاباةٍ أو مجاملةٍ في صيانة الوعي الوطني، فالتهاون في تطبيق العقوبات يفتح الباب لثقافة الإفلات من المسؤولية، ويهدم هيبة القانون التي تقوم عليها الدولة.

أما القبول الجامعي، فيجب أن يُعاد إليه رونقه القائم على التنافسية والشفافية. لا بد أن يُفتح باب الجامعة لمن يحمل مفتاح الجدارة، لا لمن يطرقها باسمٍ أو واسطة. التميز وحده هو معيار القبول والبقاء، لأن الجامعة التي تُنصف المتميز تبني وطنًا عادلًا، أما التي تُكافئ الاستثناء، فستُخرج جيلًا يبرع في المطالبة لا في الإبداع.

إن رئاسة الجامعات مطالبةٌ اليوم، لا غدًا، بأن تُعيد تعريف دورها الحقيقي: لا كمؤسساتٍ تعليميةٍ فحسب، بل كحاضناتٍ وطنيةٍ تُعيد تشكيل الوعي، وتُحصّن الطلبة من الانزلاق نحو العنف، وتغرس فيهم قيم الحوار والانتماء والمواطنة الصادقة. عليها أن تُرسّخ هيبة القانون بلا تمييز، وأن تزرع في كل طالب شعورًا بأن الجامعة بيته الآمن، لا حلبةً لتصفية الحسابات، وأن التميز هو الطريق الوحيد لنيل المكانة، لا الواسطة أو العصبية.

وفي النهاية، ليست المشاجرات قدرًا محتومًا، بل نتيجةٌ يمكن تغييرها حين تتغير الأسباب وتُستبدل العقلية، وحين نعيد للجامعة رسالتها الأولى: أن تكون واحةَ فكرٍ لا وكرَ خصومة، وأن يعود فيها العلم سيّد الموقف، والوعي سيّد القرار، والمؤسسة الجامعية تحافظ على رسالتها ومسارها الصحيح..!!!

مدار الساعة ـ