أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الخوالدة يكتب: امتحان غزة.. حتى يكتب التاريخ ما نحب!


د. زيد احسان الخوالدة

الخوالدة يكتب: امتحان غزة.. حتى يكتب التاريخ ما نحب!

مدار الساعة ـ

ما جرى في غزة صدمةٌ لا تحتمل التأويل. ليس لأننا رأينا القصف فحسب، بل لأننا شاهدنا مرآة الأمة تتصدع أمام أعيننا: تضعضع وحدتها، وتباعد خطابها، وتحوّل هموم الناس إلى مادةٍ لتنافسٍ كلامي لا يُطعم جائعًا ولا يُداوي جرحًا. إن الصدمة الحقيقية ليست في وقع القذائف على التراب بل في وقعها على ضميرنا الجمعي، ثم في عجزنا عن تحويل هذا الألم إلى عمل موحّد يُعيد للأفق معنى ووجهة.

الأمة العربية والإسلامية في حاجةٍ إلى لحظةٍ من الصدق، إلى قرارٍ جماعي يبدأ من البسيط الممكن ويفتح الطريق أمام الأعمق الممكن. لا يَكفي أن نحزن أو نكتفي بالبيانات، فغزة ليست عنوانًا للندب وحده؛ هي اختبار عملي لقدرتنا على التوحّد داخل قضايا تخدم الإنسان. الكلمة التي تُوحد قادرةٌ على أن تُنقذ قبل أن تُصاب الأرض مرةً أخرى بفراغ القرار.

التجربة العربية تُذكّرنا بأن القوة الحقيقية لا تُقاس بالسلاح وحده، بل بالقدرة على توحيد الكلمة والعمل المشترك. فالاختلاف يجب أن يُدار في فضاءات العلم والمؤتمرات، أما الميدان فهو وطن للعمل المشترك لا ملعب للصراعات. حيا الله الأردن وحيا الله مصر، وحيا الله كل العرب والمسلمين.. يا أيها العرب، إن الجرح غائر، وإن الأولوية اليوم في الاصطفاف خلف الكلمة كفعل مستمر وزخم يوقظ شمعة الأمل. حين يرى الناس علماءً ومسؤولون يبنون مستشفىً أو مدرسة، بدل رفع الصوت في خطاباتٍ بلا أثر، يعود الدين إلى قلب الأمة، والعمل العملي يُعيد لها وجهها المشرق.

يا علماء الأمة، يا من تحملون ميراث النبوة ومسؤولية الكلمة، آن الأوان أن تخرجوا من معركة إقصاء بعضكم لبعض إلى معركة العمل ومكارم الأخلاق. كفى للأمة أن ترى علمها منقسمًا، وخطابها يجرّح بدلاً من أن يضمّد. ليس من الدين أن نحول المنابر إلى جبهات، ولا من الحكمة أن نُجيّش الناس باسم الخلاف. مكان اختلافكم المؤتمرات لا الشوارع، والمجالس العلمية لا مواقع التواصل. الدين لا يُحمى بالهجوم، بل يُصان بالخلق، والتواضع، والصدق في خدمة الناس.

إن العمل وحده هو الذي يعيد الثقة إلى هذا الجسد العربي المنهك. حين يرى الناس عالمًا يفتح مستشفى أو مدرسة أو يجلس ليتعلم معهم بدلاً من أن يرفع صوته في خطابٍ لم يعد يُؤمنه أحد، يعود للدين مقامه في القلوب. مكارم الأخلاق هي الميدان الحقيقي للعلماء، لا ساحة المناظرات ولا خطب الغضب. فلتكن الكلمة جسرًا نحو البناء لا نارًا تلتهم البقية.

التاريخ لا يرحم من أضاع بوصلة الأمة حين كان العالم ينتظر منه الهداية. لقد هُزم العراق يوم انقسم العرب لا يوم دخلته الدبابات، وضاعت القدس يوم غاب صوت الحكمة لا يوم علت المدافع. ما أشد الحاجة اليوم إلى أن نستعيد وعينا الجمعي، أن نُحيل الألم إلى مشروعٍ مشترك، وأن نؤمن أن الأمة التي تختلف في الرأي قادرة على أن تتفق في المصير.

ان الصدمة لا تُقاس بعدد الشهداء، بل بعدد العقول التي تستيقظ بعدها. وهذه هي الحقيقة التي يجب أن نواجهها بشجاعة. فغزة لم تُهزم، لكنها كشفت حجم الهزيمة في داخلنا، الهزيمة التي نُربّيها كلما قدّمنا الجدل على العمل، وكلما تركنا الاختلاف يُصبح سياجًا بدل أن يكون جسرًا.

يا علماء الأمة، كونوا البوصلة قبل أن تضيع الطريق. اتحدوا على ما ينفع الناس، لا على ما يفرّقهم. افتحوا المدارس والمستشفيات والمراكز العلمية، فإن الأمة لا تحتاج إلى مزيدٍ من الخطب، بل إلى رجالٍ يصنعون الأمل. الدين ليس معركة، بل مشروع حياة، والإسلام لم يُبنَ على الصراخ بل على الرحمة والعدل والعمل.

غزة كانت، ولا تزال، جرسًا يدقّ في ضمير الأمة. إن صحّ لنا أن نستجيب، فسنكتب بفعلنا صفحةً جديدة في التاريخ. وإن لم نستفق، فسنجد أن التاريخ سيكتب عنا ما لا نحب. أهلٌ نتعلم، ووقت العمل الحقيقي قد حان.

مدار الساعة ـ