مجلس النواب اليوم يقف أمام اختبار حقيقي وهو عبور ازمة الثقة، إذ تشير معظم القراءات السياسية إلى أن منسوب الثقة الشعبية به تراجع إلى مستويات مقلقة. هذه الحقيقة لا يمكن تجاهلها، لأنها تمسّ جوهر التمثيل الشعبي ودور البرلمان في معادلة الإصلاح السياسي. في ظل هذا المناخ، يأتي توافق اربع كتل برلمانية على معالي الباشا مازن القاضي لرئاسة المجلس وسعادة الدكتور خميس عطية كإشارة تتجاوز بعدها الإجرائي إلى معنى أعمق يرتبط بحاجة المجلس إلى قيادة تعيد التوازن وتعزيز الهيبة للمؤسسة التشريعية.
معالي الباشا مازن القاضي ليس اسماً جديداً على الحياة العامة، فقد تولى مناصب قيادية عليا مكّنته من فهم الدولة من داخلها، لا من خارجها. تولى إدارة الأمن العام، ثم وزارة الداخلية، وكان عضواً في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وهو اليوم نائبٌ منتخبٌ في البرلمان. ويُضاف إلى ذلك أن مازن القاضي فاز بعضويته في مجلس النواب من خلال القائمة العامة الحزبية لحزب الميثاق الوطني، في تجربة انتخابية تُعدّ إحدى ثمار منظومة التحديث السياسي الجديدة. وهذا البعد يمنح ترؤسه المحتمل للمجلس رمزية خاصة، فهو لا يأتي من خارج الإصلاح الحزبي بل من داخله، ما يجعله أحد أوائل من يمثلون التحول من العمل الفردي إلى العمل البرامجي المنظم تحت القبة.وفي الموازاة ذاتها، جاء التوافق على سعادة النائب د. خميس عطية كنائب أول لرئيس مجلس النواب كإشارة مكملة للاتجاه ذاته نحو إعادة تعريف القيادة داخل المؤسسة التشريعية. فعطية لا يمثل فقط خبرة برلمانية طويلة، بل تجربة فكرية في العمل الجماعي المنظم، ظهرت مبكرًا في اندماجه في كتلة المبادرة النيابية خلال مجلس النواب السابع عشر، حين حاول وزملاؤه أن ينقلون العمل النيابي من منطق الخطابة الفردية إلى منطق الفعل البرامجي المؤسسي. هذه التجربة لم تكن عابرة، بل مهدت لوعي سياسي جديد يرى في الكتل النيابية أداة إصلاح لا اصطفافًا مؤقتًا.وفي الانتخابات الأخيرة، جاء فوزه عبر القائمة العامة الحزبية ليؤكد انسجام مساره مع التحول الجاري نحو العمل البرامجي الحزبي الذي يشكّل جوهر مشروع التحديث السياسي. كما أن عضويته في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية تمنحه رؤية مركّبة، تجمع بين وعي الممارسة وتجربة التشريع، وتجعله أكثر قدرة على قراءة ما وراء النصوص؛ فالرجل يدرك أن التحديث السياسي لا يكتمل إلا ببرلمانٍ يمتلك وعيًا سياسيًا مؤسسيًا، يقود لا يُقاد، وينظّم لا يُنظَّم.تراجع الثقة بالمجلس لم يكن وليد أداءٍ تشريعي فحسب، بل نتيجة تراكمات من الانطباعات السلبية حول جدوى العمل البرلماني، وضعف التواصل مع الشارع، وغياب الإيقاع المنظم داخل غرفة التشريع. من هنا، تأتي أهمية اختيار شخصيات تمتلك خبرة في التنظيم والانضباط، وتدرك في الوقت نفسه طبيعة التحول الذي تمر به البلاد نحو الحياة الحزبية والبرامجية. فالقاضي وعطية، بصفتهما من المشاركين في صياغة منظومة التحديث السياسي، يدركان تماماً أن استعادة الثقة تبدأ من إصلاح الأداء البرلماني ذاته، ومن تحويل المجلس إلى نموذج في الجدية والانضباط والمسؤولية أمام الرأي العام، لا سيما في متابعة مشاريع قوانين حاسمة وتمس حياة المواطنين مباشرة مثل مشروع قانون خدمة العلم، والقانون المعدل لقانون الضمان الاجتماعي، والقانون المعدل لقانون الإدارة المحلية، ومشروع قانون الموازنة، بالإضافة إلى متابعة التزام الحكومة بالالتزامات التي نص عليها قانون الموازنة العامة السابق. هذه التشريعات ليست مجرد نصوص قانونية، بل أدوات حقيقية لإعادة بناء الثقة، لأنها ترتبط في حياة المواطنين ومستوى معيشتهم وخدماتهم اليومية، وتشكل اختباراً حقيقياً لقدرة البرلمان على مساءلة الحكومة وتنفيذ دوره الرقابي بفعالية.إن قيادة مجلس النواب ليست مهمة إدارية بقدر ما هي اختبار للقدرة على إدارة التوازنات السياسية والاجتماعية في البلاد. المطلوب من الرئيس ونائبه في هذه المرحلة أن يعيدا للمجلس دوره كمؤسسة حكم لا كساحة خصومة، وأن يستعيدا احترام المواطن لدور النائب عبر الأداء لا الوعود. فالثقة لا تُمنح ببيانات، بل تُبنى عبر سلوكٍ مؤسسي يعبّر عن وعي سياسي وإداري في آن واحد.التوافق النيابي الأخير لا يمكن قراءته كمجرد توافق شخصي، بل كإشارة إلى رغبة في الاستقرار داخل البرلمان، وفي الانتقال من منطق التنافس الفردي إلى منطق المسؤولية الجماعية. فاختيار شخصيات تمتاز بالهدوء والحزم والقدرة على إدارة التفاصيل المعقدة يعكس فهماً عميقاً لاحتياجات المرحلة المقبلة، التي تتطلب استقراراً تشريعياً يواكب التحولات السياسية والاقتصادية والإقليمية، ويضمن أن تكون التشريعات المرتبطة بحياة المواطنين أداة لإعادة بناء الثقة وليس مجرد صيغ قانونية على الورق.تولي مازن القاضي رئاسة المجلس، إلى جانب خميس عطية كنائب أول، سيكون فرصة لإعادة تعريف العلاقة بين البرلمان والمجتمع. فالمطلوب ليس مجرد تحسين الصورة، بل بناء ثقة جديدة تستند إلى الأداء، وتستمد قوتها من الممارسة لا من الشعارات. المرحلة المقبلة تفرض على مجلس النواب أن يكون أكثر انفتاحاً، وأكثر قدرة على ممارسة الرقابة والتشريع من موقع وطني مسؤول، يوازن بين النقد والبناء، وبين الاستقلالية والتكامل والتعاون مع مؤسسات الدولة، مع التركيز على القوانين الجوهرية التي تلامس حياة الناس مباشرة، وتجعل البرلمان أكثر قرباً من المواطنين وأكثر فعالية في إدارة التحديات اليومية، بما في ذلك متابعة التزام الحكومة بتنفيذ بنود الموازنة السابقة ورفع مستوى المساءلة والتقييم لأداء الإدارة العامة بروح وهوية حزبية برامجية واضحة للمواطنين.إن الأردن، وهو يمضي بثبات في مشروع تحديثه السياسي، يحتاج إلى مؤسسات قادرة على ترجمة الرؤية إلى ممارسة. ورئاسة مجلس النواب هي حجر الزاوية في هذا البناء، لأنها تحدد إيقاع العمل النيابي وتؤثر في المزاج العام للمؤسسة. لذلك، فإن اختيار شخصيات بحجم وخبرة مازن القاضي وخميس عطية لا يمثل حدثاً بروتوكولياً بقدر ما يعكس إدراكاً بأن المرحلة تتطلب قيادة تُعيد الثقة قبل أن تطلبها، وتعزز الهيبة قبل أن تتحدث عنها، مع ضمان أن يكون البرلمان أداة حقيقية لإحداث فرق ملموس في حياة المواطنين من خلال التشريعات الجوهرية والمتابعة الدقيقة للأداء الحكومي.وبعيدًا عن تراب المفرق والزمالة في اللجنة الملكية، يظل هذا التحليل قراءة سياسية موضوعية لمسار التحديث ومهام المجلس المقبلة.الحسبان يكتب: التغيير بيد رجالات التحديث.. القاضي وعطية امام مرحلة مفصلية
مدار الساعة ـ