يفتتح جلالة الملك اليوم الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة بإلقاء خطبة العرش أمام مجلسي الأعيان والنواب مجتمعين وذلك عملاً بأحكام المادة (79) من الدستور، التي ربطت بدء أعمال الدورة البرلمانية لحضور جلالة الملك ومخاطبته أعضاء كلا المجلسين، والذين يتعين عليهم فيما بعد تقديم ردودهم على الخطاب الملكي ضمن الجدول الزمني المحدد في الأنظمة الداخلية لمجلسي الأعيان والنواب.
ويمثل هذا الارتباط العضوي بين بدء أعمال السلطة التشريعية وإلقاء خطبة العرش دلالاتٍ دستورية راسخة، أهمها تأكيد صفة الملك كرأس للدولة وفق أحكام المادة (30) من الدستور. وعلى الرغم من أن المشرّع الدستوري قد أجاز للملك أن ينيب عنه رئيس الوزراء أو أيّاً من الوزراء لإلقاء هذه الخطبة، فإن جلالة الملك يحرص دائمًا على الحضور شخصيًا إلى مجلس الأمة وافتتاح دوراته البرلمانية، بما يعكس رمزية الخطبة وعمق دلالتها الوطنية.ويُعدّ الاجتماع المشترك لأعضاء مجلسي الأعيان والنواب للاستماع إلى خطبة العرش من أرفع المناسبات الدستورية في الدولة الأردنية؛ فهذه الخطبة ليست مجرد كلمة بروتوكولية، بل هي وثيقة دستورية وسياسية سنوية ترسم ملامح المرحلة المقبلة، وتضع الأعيان والنواب في صورة أولويات الدولة وتوجهاتها الوطنية. وقد دأبت خُطَب العرش المتعاقبة على التطرق إلى الإصلاح الشامل من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب التحديد الواضح للأولويات الاقتصادية ودور الأردن في القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما يجعلها بمثابة خارطة طريق للعمل الوطني خلال الدورة البرلمانية الجديدة.وتنبع أهمية خطبة العرش أيضًا من كونها المناسبة السنوية التي يزور فيها جلالة الملك مجلس الأمة وفق التقاليد الدستورية الراسخة. فهذه الزيارة الملكية تحمل رمزية خاصة، تجسّد العلاقة الوثيقة بين رأس الدولة والسلطة التشريعية، وتؤكد مكانة المجلس كمؤسسة دستورية تعكس الإرادة الشعبية. وتزداد هذه الرمزية عمقًا بحضور رؤساء السلطات الأخرى وكبار موظفي الدولة وقادة القوات المسلحة – الجيش العربي – والأجهزة الأمنية، الذين يجتمعون جميعًا في مكان وزمان واحد للاستماع إلى التوجيهات والتطلعات الملكية المعبر عنها في خطبة العرش، فتكون بذلك نبراس عمل وخارطة طريق لرجالات الدولة وقادتها في المرحلة القادمة.ويحرص المشرّع الدستوري دائمًا على صون هذه الرمزية الوطنية العليا لخطبة العرش واحترامها، كما تجلّى ذلك في عام 2011 عندما خضع الدستور الأردني لتعديلاتٍ جوهرية كان من بين أهدافها إعادة الاعتبار إلى مكانة الخُطب الملكية؛ إذ أُلغي النص الدستوري الذي كان يجيز للحكومات الجديدة اعتبار خطبة العرش بيانًا وزاريًا لها، والحصول بموجبه على ثقة أعضاء مجلس النواب.فقبل عام 2011، لم تكن الوزارات الجديدة التي تتشكل في الفترة التي يكون فيها مجلس النواب غير مجتمع أو منحلاً ملزمة بتقديم بيان وزاري خاص بها، بل كان النص الدستوري قبل التعديل يجيز لها اعتبار خطبة العرش بيانًا وزاريًا لغرض الحصول على ثقة أعضاء مجلس النواب. وقد أضيف هذا الحكم الاستثنائي إلى الدستور الأردني في عام 1958 تماشيًا مع المادة (48) من دستور الاتحاد العربي، وأُبقي عليه بعد انتهاء ذلك الاتحاد. فكان ذلك النص يشكل مخالفة صريحة لأسس النظام النيابي الكامل القائم على قاعدة عدم مسؤولية الملك سياسيًا أمام مجلس النواب، وأن الوزارة هي من تتحمل المسؤولية السياسية أمام المجلس، وفق القاعدة الفقهية المعروفة "لا يُنسب إلى الملك خطأ بل إلى الوزارة".وظلّ الربط الدستوري غير الملائم بين خطبة العرش والبيان الوزاري قائمًا حتى عام 2011، عندما تقرّر إلغاؤه وإلزام كل وزارة جديدة تُشكَّل بتقديم بيان وزاري خاص بها إلى مجلس النواب، حتى وإن تشكّلت في فترة يكون فيها المجلس غير منعقد أو منحّل؛ وذلك لتعزيز الرقابة النيابية على أعمال الحكومة وتأكيد المسؤولية الوزارية أمام المجلس المنتخب.وبذلك يكون المشرّع الدستوري قد أعاد لخُطبة العرش مكانتها الدستورية بوصفها الوثيقة التوجيهية العليا للرؤية العامة للدولة من منظور ملكي، التي تحدد الإطار السياسي والوطني الذي تعمل الحكومة داخل حدوده وتلزمها بالسعي لتحقيقه. كما تعكس الخطبة العلاقة التكاملية بين العرش والمجلس النيابي، وتؤكد التوازن الدقيق بين الرمزية الملكية والمسؤولية الوزارية أمام النواب، فتظل بذلك مرجعًا دستوريًا راسخًا يوجّه السياسات العامة ويعزز ممارسة الحكم النيابي الملكي الوراثي القائم على التوازن بين السلطات، بما يضمن الاستقرار الوطني واستمرارية الدولة.الرمزية الدستورية لخطبة العرش الملكية
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
الرمزية الدستورية لخطبة العرش الملكية
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ