أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

من يصيغ خطاب العرش السامي، وكيف تترجمه وتنفذه السلطات؟


أ.د محمد الفرجات

من يصيغ خطاب العرش السامي، وكيف تترجمه وتنفذه السلطات؟

مدار الساعة ـ
من يصيغ خطاب العرش السامي، وكيف

في كل عام، ومع افتتاح الدورة العادية لمجلس الأمة، يتوجه الأردنيون إلى الاستماع لخطاب العرش السامي الذي يلقيه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وهو ليس مجرد استحقاق دستوري أو مناسبة بروتوكولية، بل هو وثيقة وطنية عليا تتجدد فيها الثقة والاتجاه.

خطاب العرش يُعبّر عن رؤية الملك لما تمرّ به الدولة من تحديات وفرص، ويقدم خارطة طريق وطنية تتضمن رؤى واستراتيجيات تشكّل أساس عمل مؤسسات الدولة كافة للعام السياسي والاقتصادي المقبل.

الخطاب الملكي لهذا العام جاء شاملاً وعميقاً، عكس استيعاب القيادة الهاشمية لطبيعة المرحلة وتعقيداتها، محلياً وإقليمياً، كما أكد مجددًا على الثوابت الوطنية: الهوية الجامعة، سيادة القانون، العدالة الاجتماعية، والتنمية المتوازنة في المحافظات، إلى جانب دور الأردن الإنساني والقومي في الدفاع عن فلسطين ومساندة الشعب الفلسطيني في وجه العدوان.

خطاب العرش السامي... وثيقة توجيه واستراتيجية

خطاب العرش السامي يُعتبر من الناحية السياسية والدستورية وثيقة مرجعية عليا، لأنه يرسم الاتجاه العام للدولة ويحدد أولوياتها الكبرى. وهو يجمع بين ثلاثة أبعاد رئيسية:

1. البعد التوجيهي: إذ يضع أمام السلطات المختلفة المبادئ الأساسية التي يجب أن تُبنى عليها السياسات العامة.

2. البعد التقييمي: حيث يراجع ما تحقق خلال المرحلة السابقة ويشير إلى مكامن القوة والضعف في الأداء العام.

3. البعد التحفيزي المستقبلي: لأنه يدعو الجميع إلى مضاعفة الجهود والعمل بروح الفريق الوطني الواحد من أجل الأردن ومستقبل أجياله.

الملك، وهو يصوغ خطاب العرش، لا يفعل ذلك بمعزل عن الواقع؛ بل يُشرك مستشاريه ومؤسسات القرار، ليكون الخطاب نتاج قراءة دقيقة للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبالتالي فإن كل فقرة فيه مقصودة، وكل توجيه فيه يُعد رسالة إلى جهة محددة، سواء كانت حكومية، أو برلمانية، أو شعبية.

السلطات الدستورية ودورها في ترجمة الخطاب:

أولاً: السلطة التشريعية – مجلسا النواب والأعيان

يقع على عاتق مجلس الأمة مسؤولية رئيسية في التعامل مع خطاب العرش كوثيقة عمل تشريعية.

إذ يجب أن يناقش المجلسان مضامين الخطاب بعمق، وأن يستخلصا منه المحاور ذات الصلة بصلاحياتهما، ويحوّلاها إلى خطط عمل واقعية عبر التشريعات والمساءلة والرقابة.

فالمطلوب أن لا تبقى كلمات الخطاب في إطار التقدير العام، بل أن تتحول إلى أجندة تشريعية واضحة، تترجم ما ورد فيه إلى قوانين تعزز الإنتاجية، تحفّز الاستثمار، تدعم الشباب، وتضمن العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.

كما ينبغي أن يكون للجان الدائمة في المجلسين أدوار محددة في متابعة تنفيذ تلك التوجيهات، وأن تُصدر تقارير دورية تُرفع للحكومة والرأي العام حول مستوى الالتزام.

ثانياً: السلطة التنفيذية – الحكومة وأجهزتها:

أما الحكومة، فمسؤوليتها المباشرة هي تحويل الرؤية إلى فعلٍ ملموس.

فعليها أن تراجع خططها وبرامجها في ضوء ما ورد في خطاب العرش، وأن تعاير أولوياتها وميزانياتها بما ينسجم مع تلك التوجيهات الملكية.

يجب أن تُترجم مضامين الخطاب إلى خطط تنفيذية على مستوى كل وزارة وبما يتناسب مع الخطط القائمة لديها، مع تحديد جداول زمنية ومؤشرات أداء تقيس مدى التقدم في التنفيذ.

ومن المهم أن تعتمد الحكومة نهج العمل التكاملي بين الوزارات، وأن تُشرك المجتمع المحلي والقطاع الخاص في التخطيط والتنفيذ، بما يخلق ثقة متبادلة ويعزز الشراكة الوطنية التي أكد عليها الخطاب.

ثالثاً: السلطة الملكية – القيادة الموجّهة والمقيّمة:

الملك، وهو رأس الدولة وضامن توازن السلطات، يمارس دوره عبر تحديد الاتجاه وتقييم المسار الوطني.

خطاب العرش هو أداة ملكية استراتيجية، يُراد منها أن تكون مرجعاً لتصويب المسار وتقييم الأداء العام لمؤسسات الدولة.

فهو لا يكتفي بتشخيص الواقع، بل يُقدّم الرؤية ويُحدّد المعيار الوطني الذي يُقاس عليه النجاح أو الإخفاق.

كما أن تجديد الخطاب سنوياً يُشكّل مراجعة وطنية مستمرة لمسار الدولة وتوجهاتها.

من الرؤية إلى التنفيذ: مقترحات عملية

لكي لا يبقى الخطاب في إطار الخطاب، يمكن اقتراح سلسلة من الخطوات العملية لتحويل رؤى العرش إلى برامج وطنية متكاملة:

1. إطلاق ورشة وطنية شاملة تجمع البرلمان والحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لتحليل الخطاب وتحديد أدوار كل جهة.

2. إعداد خارطة طريق تشريعية من قبل مجلس الأمة خلال فترة محددة، تتضمن القوانين التي تنسجم مع أولويات الخطاب.

3. تحديث الخطة التنفيذية للحكومة خلال 60 يوماً، وربطها بمؤشرات قياس أداء علنية تُعرض للرأي العام.

4. تشكيل لجنة وطنية للمتابعة والتقييم ترفع تقارير دورية إلى جلالة الملك عن مستوى الإنجاز.

5. تعزيز التوعية الوطنية عبر الجامعات ووسائل الإعلام لتوضيح مضامين الخطاب وأثرها في حياة المواطنين.

6. ربط الخطاب بالتنمية المحلية في المحافظات، من خلال خطط تنفيذية لكل محافظة تنسجم مع التوجيهات الملكية في العدالة التنموية وتفعيل دور المحافظين.

لماذا هذا الخطاب مهم الآن؟

خطاب العرش السامي لهذا العام يأتي في مرحلة دقيقة، يتشابك فيها المحلي بالإقليمي، والسياسي بالاقتصادي.

فهو يؤكد على أن الأردن ثابت في مواقفه القومية والإنسانية، وفي الوقت ذاته يسعى إلى تعزيز مناعته الاقتصادية والإدارية من الداخل.

كما أنه يُعيد تعريف العلاقة بين السلطات ضمن إطار من التعاون والتكامل، ويؤكد على أن التنمية والعدالة والاستقرار السياسي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الأداء المؤسسي الممنهج.

الخطاب أيضًا يجدد الثقة بالدولة ومؤسساتها، ويدعو الأردنيين جميعاً إلى التكاتف والعمل بإيجابية، بعيداً عن الإحباط والمزايدات، من أجل مستقبل يليق بتاريخ هذا الوطن وتضحيات أبنائه.

إنّ خطاب العرش السامي ليس مناسبة احتفالية، بل لحظة وعي وطني وتكليفٍ جماعيٍّ لكل مسؤول ومواطن.

إنه مرآة الدولة التي تنظر فيها إلى نفسها لتراجع، وتُقيّم، وتُصوّب.

وهو بمثابة بوصلة الدولة الأردنية التي تضبط الاتجاه وتمنع الانحراف عن الثوابت.

إنّ الواجب اليوم هو أن تتحرك مؤسساتنا في اتجاه واحد، وفق ما رسمه الخطاب من رؤى وأهداف، وأن تُترجم تلك التوجيهات إلى إنجازات تُلمس في حياة المواطن اليومية.

فالمسؤولية مشتركة، والملك وضع الإطار، وبقي على السلطات التنفيذية والتشريعية والمجتمع أن يتحركوا في ضوء هذه البوصلة، بثقةٍ، وتكاملٍ، وصدقٍ في العمل من أجل أردنٍ أقوى وأعدل وأكثر ازدهارًا.

مدار الساعة ـ